أقلام الثبات
مثّل بيان وزير الخارجية اللبناني عبدالله أبو حبيب، الذي ادان فيه الهجوم الروسي على أوكرانيا، فرصة لتظهير الحماس الذي يبديه معظم اللبنانيين، في إنحيازهم تجاه طرفي الحرب المشتعلة هناك، بما هي إستعادة لصراع الشرق والغرب، أو بالأحرى صراع الأحادية الدولية المتمثلة بالهيمنة الأميركية على أكثر من نصف العالم، مقابل سعي روسيا الحثيث لإستعادة دورها ونفوذها، الذي خسرته مع تفكك الإتحاد السوفياتي.
هذا الإنحياز اللبناني، بداية، شكل فضيحة لدعاة الحياد ولنوعية حيادهم الذي ينادون به. إذ يبدو أن دعاة الحياد يريدونه فقط لإرضاء أميركا والعدو "الإسرائيلي" ومن يدور في فلكهما من عرب وغربيين. وهو في الوقت ذاته، جاء تأكيداً على أن اللبنانيين منقسمين حول الموقف من تلك الحرب، مثلما هو إنقسامهم المعهود على مختلف القضايا التي تواجههم، حقيرة كانت أم خطيرة.
وكشف بيان الخارجية اللبنانية والمواقف التي صدرت تؤيده، في مختلف وسائل الإعلام وفي وسائل التواصل الإجتماعي، أن هناك بين اللبنانيين من يتحمس ويندفع لتأييد أي موقف وكل موقف تتبناه الولايات المتحدة الأميركية ومن خلفها الدول الغربية، حتى لو أضرّت هذه التبعية بمصالح لبنان، أو جاءت نقيضاً لما تنادي به الجهات اللبنانية ذاتها، عندما تنكر على غيرها أخذ مواقف نقيضة، تؤيد فيها أطرافاً أومواقف تنتمي للضفة الأخرى من الإصطفاف الدولي بامتداداته الإقليمية والمحلية. وتبين أن هناك في لبنان من يخضع لأوامر الإدارة الأميركية وممثلتها في سفارة عوكر، باعتبار تلك الأوامر غير قابلة للرد. وأن شبكة المصالح التي تربط الداخل بالخارج لا تراعي سوى مصالح القوى الخارجية والأفراد الذين يتبعونها في الداخل، بغض النظر عن المصلحة العامة.
كذلك بينت المواقف، أن بين اللبنانيين من يعادي روسيا من دون التفريق بين ماضيها وحاضرها. بين روسيا اليوم وبين زعيمة الكتلة الشيوعية السابقة، عندما كانت تقودها وكانت دولة عظمى تسمى "الإتحاد السوفياتي". فروسيا اليوم عادت زعيمة العالم الأرثوذكسي.
وبالمقابل، بينت الردود على بيان الخارجية، أن هناك بين اللبنانيين من يتبنى مواقف روسيا وحلفائها، من غير أن يكون ممن قيل عنهم: "إذا أمطرت في موسكو حملوا المظلات في بيروت". بل أن هناك شريحة أوسع من اللبنانيين تؤيد موسكو وسياساتها، بعضها يؤيد مواقفها ظالمة كانت أو مظلومة؛ والبعض يؤمن أن "عدو عدوك صديقك"، أو يؤيدها لأسباب دينية أرثوذكسية، لذلك يعادي كل هؤلاء سياسات الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية والعربية الخاضعة لها، خصوصاً الدول المنخرطة في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ربطاً بالصراع العربي-"الإسرائيلي" من جهة؛ وبمواقف الدول الغربية الإستعمارية الداعمة "لإسرائيل" من جهة ثانية. ويؤيدون سياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
والمعروف أن تأييد العدو "الإسرائيلي" لأي دولة واتخاذه موقفاً إيجابياً منها، هو سبب كاف لدى الشريحة الأكبر من اللبنانيين لتتخذ موقفاً مناهضاً لها، تحت شعار: (أينما تقف "إسرائيل" والصهيونية، نقف في المكان النقيض). فكيف الحال عندما يكون رئيس أوكرانيا يهودياً صهيونياً يحمل الجنسية "ألإسرائيلية"؟
وتأتي في هذا السياق مشاركة أوكرانيا في غزو العراق، لتضعها في موقع من يستحق العقاب الروسي، في نظر البعض، طالما أنها جزء من قوى العدوان على المنطقة العربية.
وتلعب عنصرية الغربيين والأوروبيين في تعاطيهم مع حرب أوكرانيا، الذي يتناقض مع ردود أفعالهم السابقة تجاه ما تعرضت له شعوب وبلدان أخرى، من عدوان أميركي وأوروبي وجرائم حرب إرتكبوها، إن كان في افغانستان أو العراق وسورية وليبيا واليمن؛ ولا ننسى الصومال وكذلك جرائم الحروب الإستعمارية القديم منها والحديث، فنجد أن كل أولئك المجرمين، الذين لم يعتذروا باسم بلادهم من ضحاياهم على تلك الجرائم؛ ولم يعوضوا عليهم خسائرهم المادية والبشرية، يتباكون كالتماسيح على جراح الشعب الأوكراني، الذي يشهد العالم كله على التحريض الذي تلقاه من الأميركيين ومن حكومات أوروبا الغربية، لدفعه إلى الصدام مع روسيا. وعندما وقعت الواقعة، وقف رجل الغرب وعميلهم في رأس السلطة الأوكرانية، فلاديمير زيلينسكي، يشكو من أن "أصدقاءه" الغربيين تركوه وحيداً، في مواجهة الجحافل الروسية المدججة بأحدث وأقوى الأسلحة المعروفة في عالم اليوم.
وهناك بين اللبنانيين من يتحمس رافضاً فكرة أن تقوم دولة بغزو دولة أضعف منها. وهذا ناتج عن معاناة لبنان من الكيان "الإسرائيلي" العدواني. ولذلك تراه يتخذ موقفاً رافضاً للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. في حين أن البعض الآخر يتبنى هذا الموقف على سبيل النكاية، فيكون "كلام حق يراد به باطلاً".
ولا ننسى أن وجود إدارة في أوكرانيا يحكمها رئيس يحمل الجنسية "الإسرائيلي"، هو بحد ذاته سبب لإشهار العداء للسلطات الأوكرانية، أو للتعاطف معها. وهذا الموقف العدائي أو المتعاطف مع النظام الأوكراني، ليس بالضرورة موجهاً لكل الشعب الأوكراني، باعتبار أن هناك شريحة واسعة من الأوكرانيين تعارض حكم زيلينسكي وحكومته، التي يرأسها مثيل لزيلينسكي في كونه يهودياً وصهيونياً يحمل جنسية الكيان الصهيوني، الذي يحتل فلسطين ويهدد بتوسعه وأطماعه وخطره كل جوارها العربي والإسلامي. وفي الوقت نفسه هناك فئات عنصرية وفاشية في صلب النظام القائم في كييف، بما يرضي جميع اهواء اللبنانيين ويلبي شغفهم لمناصرة هذا ومعاداة ذاك.
وحتى الذين يتخذون موقف الحياد في هذا الصراع، أغلبهم متحمس لنظرية "فخار يطبش بعضه"، باعتبار أن الخطر القائم لا يخيفنا فليس لدينا شيء نخاف عليه. وبعضهم يرى أن من حقنا أن نتفرج عليهم كما تفرجوا علينا خلال العقود السابقة. أو أن في صراعهم فائدة لبلادنا، لأن صراعهم يلهيهم عنا ويجنبنا فتنهم وتدخلاتهم. وبالنتيجة، قلما تجد لبنانياً لا تعنيه تلك الحرب، كل من زاويته أومن موقعه السياسي والعقائدي أو الديني.