أقلام الثبات
عندما شنت الحرب الكونية على سورية في العام 2011، التي لم يسلم لبنان من لظاها ، بل كان من أكثر دول الجوار السوري تضرراً، من مختلف النواحي: الأمنية، الإجتماعية، الإقتصادية، والمعيشية، تحديداً لجهة تحمل عبء النزوح. (ما لا طاقة عليه). رغم ذلك، إبتدعت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الثانية في عهد الرئيس العماد ميشال سليمان، ما أطلقت عليه في حينه "سياسية النأي بالنفس" عما يدور من أحداثٍ في البلد. لكنها عملياً أي (حكومة ميقاتي) نأت بنفسها عما يحدث في لبنان في ذلك الوقت، يومها تحوّلت أجزاء كبيرة من الأراضي اللبنانية إلى مقارٍ للمجموعات المسلحة التكفيرية، التي كانت تستهدف الإستقرار اللبناني قبل السوري، حين إتخذت هذه المجموعات من جبال السلسلة الشرقية، أوكاراً لها، وأرسلت من هناك الإنتحاريين والسيارات الملغومة، لقتل المواطنين الآمنين في مختلف المناطق اللبنانية، كالعاصمة بيروت و ضاحيتها الجنوبية، الهرمل، القاع، وطرابلس. ناهيك عن خطف الجنود ثم قتلهم في عرسال في آب 2014. وبقي الوضع الأمني في لبنان عرضةً للإستهداف الدائم من المسلحين التكفيريين، إلى حين تسلم العماد ميشال عون الرئاسة الأولى، الذي أشرف بدوره مباشرةً على "عملية فجر الجرود" الذي نفذها الجيش اللبناني، لتطهير الجبال الشرقية من رجس الإرهاب في آب 2017. يوم أعاد الأمن والأمان الى هذه الجرود. أضف الى ذلك، فقد هاجمت مجموعة من ما يسمى "الجيش السوري الحر"، السرايا الحكومية مباشرة، إثر إستشهاد اللواء وسام الحسن في تشرين الأول 2012. ورغم ذلك بقيت حكومة ميقاتي الثانية، متمسكةً بسياسة "النأي بالنفس" عما يحدث في لبنان، وبقي البلد مرتعاً لهذه المجموعات التخريبية.
كذلك تحولت المرافئ اللبنانية خلال سنوات الحرب الأولى على سورية، الى قواعدٍ للإمداد اللوجستي للمجموعات المسلحة في سورية، برعاية أمنيةٍ لبنانيةٍ، بحسب تأكيد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في حينه. نذكر باخرة "لطف الله 2" الأتية من ليبيا والمحملة بالسلاح والمتجهة الى مرفأ طرابلس، ومنه ليتم نقل حمولتها الى الداخل السوري، فكان أن أوقفت قبالة سواحل البترون في العام 2012. وللغاية عينها أشعلت في طرابلس 21 جولة إقتتالٍ دمويٍ بين أبناء منطقةٍ واحدةٍ، ليتم خلالها تمرير السلاح والذخيرة الى الجارة الأقرب، ما يشكل خروجاً فاضحاً عن القوانين والأعراف التي ترعى العلاقات بين الدول الصديقة، وإنتهاكاً لمعاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق بين لبنان وسورية الموقعة بين البلدين في العام 1991. التي تسمو على القوانين الوضعية، كونها معاهدة دولية تأتي مباشرةً بعد الدستور لناحية سموّها القانوني. وفي هذا الصدد، يؤكد مرجع دبلوماسي سوري كبير أن لبنان يأتي في المرتبة الثانية بعد تركيا، للدول التي إستخدمت أراضيها لإستهداف الإستقرار السوري. رغم ذلك لم نسمع صوتاً واحداً من فريقي رئيسي الجمهورية والحكومة يومها، يقول: "إن ما حصل مرفوض" كأضعف الإيمان. وفي سياق التمسك في "سياسة النأي بالنفس" عما يحدث في البلد، توصل المجلس الأعلى اللبناني- السوري في العام 2013 الى تفاهمٍ مع الجانب السوري يفضي الى تسمية لجنةٍ مشتركةٍ مع الجانب اللبناني، للبدء في تنظيم عودة النازحين السوريين الى لبنان، فسمى الجانب الأول أعضاءه المنتدبين الى هذه اللجنة ، غير أن الجانب الثاني تمنع عن ذلك، تحت ذريعة تعرضه للضغوطٍ دوليةٍ، وذلك في عهد سليمان وفي ضوء وجود الحكومة الميقاتية الثانية.
أيضاً وأيضاً، إستمرت سياسة "النأي بالنفس" عما يحدث في البلد الى حين تولي حكومة الرئيس حسان دياب السلطة في العام 2020. يوم منع وزير الخارجية في حكومته السفير شربل وهبة من المشاركة في "مؤتمر النازحين" في دمشق الذي رعته موسكو في تشرين الثاني من العام 2020، بالذريعة عينها "النأي بالنفس"، كون وزارة الخارجية هي الجهة الوحيدة التي تعبّر عن سياسية الحكومة الرسمية. والمبكي أن كلفة النزوح السوري الى لبنان، بلغت أكثر من 40 مليار دولار، ولم يتلق لبنان من المجتمع الدولي إلا نحو 8 مليار دولار كمساعدات إنسانية وتنموية للنازحين، رغم حدة الأزمة المعيشية التي يرزح تحتها الشعب اللبناني، بحسب معلومات لدى مصادر عليمة في وزارة الشؤون الاجتماعية.
وإستمرت "قصة قميص عثمان" أي (التمسك بسياسية النأي بالنفس) إلى حين وصول ميقاتي الى السرايا الحكومية للمرة الثالثة، يوم قامت الدينا ولم تقعد، جراء موقفٍ إنسانيٍ أطلقه وزير الإعلام المستقيل جورج قرداحي من الحرب العبثية على اليمن، ولم يهدأ بال فريق الحكم في لبنان، إلا بعد دفع قرداحي الى الإستقالة من الحكومة، في محاولةٍ لإسترضاء المملكة السعودية، التي لم تعر من جهتها أي أهمية لهذا الفريق بعد إستقالة الوزير المذكور.
أما اليوم وبعدما أصدرت وزارة الخارجية اللبنانية بيانًا أدانت فيه ما وصفته "اجتياح الأراضي الأوكرانية" ودعت روسيا إلى "وقف العمليات العسكرية فورا وسحب قواتها من أوكرانيا، فهل لاتزال الحكومة الميقاتية متمسكةً "بسياسة النأي بالنفس" أم أنها على إستعدادٍ دائمٍ للإنغماس من "رأسها الى أخمص قدميها" في أي أتون صراعاتٍ إقليمية ودوليةٍ، إرضاءً للمحور الأميركي- الخليجي؟ وإلا لماذا لم يعامل وزير الخارجية والمغتربين عبد الله بو حبيب كما تعاملت الجهات الرسمية مع قرداحي، إثر موقفه من الحرب على اليمن، ما دامت الحكومة متمسكةً "بسياسة النأي بالنفس"، وإذا كانت ترفض كل أشكال الحروب وتأمل في إعتماد الحلول السلمية، فلماذا تكيل بمكياليّن، بالتالي تبادر الى الدعوة الى إعتماد الحلول السلمية والحوار بدلاً من إستمرار القتل والدمار في اليمن؟ غير أن اللافت في شأن مواقف دول المنطقة من دخول القوات الروسية الى الأراضي الأوكرانية، أن المملكة السعودية لم تدل بأي موقفٍ حتى الساعة، وإقتصرت التصريحات المنددة بهذا الحدث على موقفي لبنان والكيان الإسرائيلي.
وتعقيباً على بيان "الخارجية" المذكور آنفاً، يؤكد مرجع في العلاقات الدولية أن هذا البيان يشكل إخفاقًا في العمل الدبلوماسي، مادامت الحكومة اللبنانية لاتزال تنتهج "سياسة النأي بالنفس"، كذلك تربطها علاقات ومصالح مع الجانبين الروسي والأوكراني.
ويقول المرجع : "ناهيك بذلك، يجب أن تأتي التصريحات الرسمية لأي بلدٍ في العالم، متناسقةً مع حجم قدراته، ليس كما هو الحال بين لبنان وروسيا"، يختم المرجع.
ووسط التصريحات والمواقف التي تتهم حزب الله وايران بالسيطرة على لبنان، يسأل مرجع مسؤول في المقاومة، هل "الحزب" هو من دفع "الخارجية" لإتخاذ هكذا موقفٍ من روسيا، وهل فعلاً يعبر عن موقف الحكومة مجتمعةً، أم أنه أطلق بالتنسيق بين ميقاتي وبو حبيب إذعاناً لأوامر السفيرة الأميركية دوروثي شيا، وما هي الخطوات الواجب إتخاذها رسمياً لمعاجلة هذا الإخفاق؟