أقلام الثبات
قبل ثلاثين عاماً، شهدت إيطاليا واحدة من أوسع حملات مكافحة الفساد في تاريخ إيطاليا، والأكبر في العالم، وأطلق عليها "الأيادي البيضاء".
في 17 شباط 1992 قرر قاض إيطالي شجاع اسمه انطونيو دي بيترو، خوض حملة شرسة ضد الفساد والمافيا افضت إلى اعتقال أكثر من 1300 شخص من السياسيين والحزبيين والنواب ورجال الأعمال، كما خضع للتحقيق نحو 1500 شخص من كبار موظفي الدولة وأصحاب الأموال والصناعيين، كما حقق القاضي دي بيترو مع اكثر من 50 نائباً ورؤساء سابقين للحكومات.. والحصيلة كانت اعتقال 3 آلاف شخص، ونصف نواب إيطاليا المنتخبين جرت إدانتهم.
ويعلق القاضي دي بيترو بعد تقاعده مشيراً إلى سرطان الفساد: "في زمن الأيادي البيضاء، ظن الناس أنهم يشاهدون معركة بين الشرطة والحرامية، اليوم لدى الناس إحساس بأنهم يشاهدون حرباً بين عصابات عدة من اللصوص".
والمفارقة أنه بعد سنتين من هذه الحملة الشعواء على الفساد والمافيا، صعد نجم سيلفيو برلسكوني ووصل إلى السلطة في إيطاليا، مما اعتبر أنه رد قاسي من جانب اخطبوط الفساد والمافيا المعشعش في كثير من المفاصل الإيطالية.. بيد أن برلسكوني الذي ظل في الحكم عدة سنوات لكنه في النهاية ادين بتهم عديد بالفساد والابتزاز.. وحتى بالتحرش الجنسي.
بأي حال لم تقف المعركة أو المنازلة بين معسكري الفاسدين واللصوص، وقضاة الأيادي البيضاء، الذين تعرضوا لحملات شعواء من الترهيب والتهديد، حتى أن القاضي انطونيو دي بيترو نفسه شنت عليه حملات إعلامية مجنونة وظالمة لتشويه صورته ومكانته وسمعته وكلها كانت محاولات لهز مكانته وصورته امام الإيطاليين.. ووصل الأمر ببطانة الفساد وأتباعها إلى تنفيذ عمليات اغتيال، فكان اغتيال رفيق دي بيترو، في حملة مكافحة الفساد، القاضي جيوفياني فالكوني مع زوجته وحراسه والتي هزت المجتمع الإيطالي.
اخطبوط الفساد الإيطالي وسع من اتهاماته وحملاته بحق قضاة "الأيادي البيضاء"، وزعموا أن هؤلاء القضاة يعملون لمصالح سياسية وحسابات خاصة، في وقت سعى فيه "أمير الفساد" سيلفيو برلسكوني إلى تمرير قوانين لتخفيف المسؤولية والقيود القانونية عن الطبقة السياسية الفاسدة، خصوصاً فيما يتعلق بالشبهات المالية، كما حاول برلسكوني تمرير قانون عفو عام عن التمويل المشبوه والإثراء غير المشروع للأحزاب.. لكنه لم يمر.
وبالخلاصة، فإن دراسات اقتصادية صدرت قبل 8 سنوات أكدت أنه لو أن حملة قضاة "الأيادي البيضاء" التي لم تتوقف، أخذت كامل مداها، لكان الاقتصاد الإيطالي أكبر بعشرين مرة مما هو عليه.. القضاة الإيطاليون الشرفاء يواصلون حملتهم، ويكفي أن نشير أنه في العام 2016 وحده، تم اعتقال أكثر 900 شخصية ايطالية بتهم الفساد .
عندنا في لبنان، ثمة فصول من هذا الواقع المرير، لكن ما يلزمنا حقاً قضاة "أيادٍ بيضاء" لا يرفعون الرايات البيضاء، إنما قبضاتهم البيضاء في وجه لصوص المال العام، الكبار والصغار.
كان الرئيسان إميل لحود وسليم الحص أطال لله في عمريهما باشروا هذه المهمة (1998-2000)، لكن تحالف المصالح والفساد و"سندات الخزينة" لم يسمح لهذه التجربة أن تكتمل فكان ما كان (وسيكون لي عودة إلى ذلك لاحقاً).
اليوم: غادة عون تقوم بإياديها البيضاء، بما يشبه ما قام به القاضي دي بيترو والقاضي فالكوني وغيرهما..
ثمة من يزين ويبرر الفساد الذي يعشعش في كل تفاصيل يومياتنا، لكن الحقيقة هي أن اخطبوط الفساد ونهب المال العام وتوابعهم من "سياسيين وإعلاميين ومصارف وقوى مختلفة طائفية ومذهبية" وهلم جرا يحاول أن يخرب ويشوه كل ضوء ينير شيئاً من جوانب الظلمة في حياتنا..
كم نحن بحاجة إلى قضاة "أياد بيضاء"، وليس رفع رايات بيضاء، أمام اخطبوط أكل أخضر ويابس لبنان.
حمى الله لبنان