أقلام الثبات
تزامناً مع انهيار الاتحاد السوفياتي، حصلت حرب الخليح الثانية، أو حرب تحرير الكويت بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. وعلى أثر ذلك، دخل الصراع العربي - "الاسرائيلي" مرحلة جديدة بتوقيع اتفاقيات سلام بين كل من السلطة الفلسطينية و"اسرائيل"، والاردن و"اسرائيل". هكذا، دخل العالم العربي مرحلة نفوذ جديدة، انقسم فيها الى محورين: دول الاعتدال ودول الممانعة.
وكانت السعودية قائدة محور الاعتدال، واستطاعت أن تبسط نفوذها السياسي عبر حلفائها على مساحة واسعة جداً من العالم العربي، من المحيط الى الخليج. وفي لبنان، تقاسمت كل من السعودية وسورية النفوذ السياسي، وأخذت السعودية على عاتقها القرار الاقتصادي في لبنان (رفيق الحريري)، بينما أضطلعت سورية بالقرار الأمني. وبقي الحال على تقاسم النفوذ الذي رعاه الأميركيون والفرنسيون، الى أن تغيّرت السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وحصل احتلال العراق عام 2003.
تباينت المصالح السعودية والسورية، بنتيجة تغيّر السياسة الأميركية في المنطقة ونظرة إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن الى سورية كجزء من "محور الشر"، وانعكس هذا التباين على الساحة اللبنانية. وحصل اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وانسحب السوريون من لبنان.
مباشرة بعد انسحاب السوريين من لبنان حصل فراغ استراتيجي، عوّضته ايران عبر حزب الله، بينما دعم الاميركيون قوى 14 آذار، وتحوّل تقاسم النفوذ السوري- السعودي الى تقاسم نفوذ إيراني أميركي. حاول الأميركيون الاستفراد بالساحة اللبنانية عبر الاطاحة بحزب الله، فكانت حرب تموز، والتي وقفت فيها السعودية موقفاً واضحاً، فاطلقت العبارة الشهيرة "المغامرون".. لكن الحرب انقلبت الى قوة إضافية لحزب الله في لبنان ولإيران في المنطقة. ثم تحوّلت مهمة الاطاحة بحزب الله الى الداخل اللبناني، فكانت أحداث 7 أيار 2008، التي رسّخت نفوذ حزب الله الامني في الداخل بدل أن تضعفه.
ومباشرة بعد أحداث الربيع العربي، وتزامناً مع الاطاحة بحلفاء السعودية في كل من مصر وتونس واليمن، وخروج المظاهرات ضد حلفائها في البحرين والأردن وسواها..كان واضحاً أن هناك مشروعاً أميركياً جديداً للمنطقة يسعى الى استبدال القيادة السعودية للمنطقة بقيادة جديدة هي القيادة التركية. وفي لبنان، تمت الاطاحة بسعد الحريري باستقالة ثلث حكومته عام 2011، وقوي النفوذ القطري بشكل أساسي.
ثم بعد عام 2013، انقلبت الأوضاع واستطاعت السعودية أن تعيد توازنها في المنطقة. وتراجع النفوذ القطري، وعاد الحريري بتسوية عام 2016 الى الحكم في لبنان. ثم ما لبثت أن توترت علاقة الحريري مع السعودية بعد مجيء ولي العهد محمد بن سلمان الى الحكم، وحصلت أزمة تشرين الثاني 2017.
اليوم، يقرر الحريري ومعه تيار المستقبل اعتزال العمل السياسي في لبنان، وتدعم السعودية القوات اللبنانية كحليفها القوي والموثوق. لكن هذا الخيار السعودي، يشكّل خسارة للسعودية وذلك للأسباب الآتية:
- إن الدول عادة تتكل، بشكل أساسي لا لبس فيه، على فضائها الطبيعي وتقويه، في وقت تقوم بتأسيس فضاء مكتسب. إن السياسة السعودية اليوم في لبنان تقوم على التخلي عن الفضاء الطبيعي لصالح الفضاء المكتسب وهو أمر لا تقوم به الدول عادة لأنه لا يمكن التعويل على استمرارية الفضاء المكتسب.
- إن امتداد تيار المستقبل على مساحة لبنان مقابل "القوات اللبنانية" التي تنشط في البيئة المسيحية، يعني انحسار النفوذ السياسي السعودي في لبنان، بغض النظر عن النتائج التي يمكن أن تحققها "القوات" في الانتخابات النيابية.
- إن انهيار الاقتصاد اللبناني وفشل البنية الاقتصادية التي أرسيت على عهد الحريري الأب وانفجارها بوجه اللبنانيين، تضرب الأسس الاقتصادية التي ورثها اللبنانيون منذ فترة تقاسم النفوذ السوري - السعودي خلال التسعينيات من القرن الماضي.
وهكذا، تكون دعامتي النفوذ السعودي التاريخي للبنان: السياسي (تيار المستقبل) والاقتصادي (الهيكلية الاقتصادية الريعية) قد انهارتا، وبيد سعودية.