أقلام الثبات
تصريح سمير جعجع بوقاحته وإبتزازه اللبنانيين في قوله بالمختصر المفيد: "إنتخبونا فيهبط سعر الدولار تجاه الليرة"، يشبه تصريح ذلك السياسي القديم الذي كان يقول للناس: "يكفي أن تنتخبني زوجتي لأصبح نائباً".
جعجع ينتمي إلى منظومة فساد ما بعد الطائف، التي أخرجته بعفو سياسي من السجن، الذي كان يفترض أن يكون قابعاً فيه حتى اليوم. فيما السياسي الآخر ينتمي لمنظومة فساد نظام 1943، التي لم تكن تقل فساداً عن المنظومة الحاكمة هذه الأيام، باستثناء أن سرقات الجيل القديم من حكام لبنان ومتزعميه، كانت بملايين الليرات في ذلك الزمان. لكنها بعد إتفاق الطائف وتولي الحريرية السياسية إدارة السرقات وتوزيع الأنصبة فيها، أصبحت بمليارات الدولارات.
ولا يخفي أصحاب مثل هذه التصريحات والمواقف، إستعلاءهم على اللبنانيين وتسلطهم عليهم، بقوة الدعم الخارجي وبتبعيتهم للسفارات الأجنبية ومخابراتها، التي شكلت رافعات لهم أوصلتهم إلى مواقعهم ومناصبهم، التي إستغلوها في جني المال الحرام وبناء الدور والقصور وإقتناص الجاه المجبول بالغرور. فاللبناني في أعينهم هو مجرد عبد مطيع لهم؛ وتابع خانع يلعبون به كما يلعب المحترف بأحجار الشطرنج.
إستقوى ذلك المتزعم بالإستعمار الفرنسي وبنفوذه الذي بقي قائماً، على الرغم من تمثيلية الإستقلال. وابتز الناس مهدداً بأنه سيكون نائباً يمثلهم في البرلمان اللبناني شاؤوا أم أبوا. وأن من يعاديه إنما يعادي "الدولة" بمؤسساتها وعساكرها وتنفيعاتها وحتى بواجباتها تجاهه كمواطن. فضعف كثيرون وصوتوا له. وهكذا باتت له "حيثية" شعبية يتغنى بها ويحركها كيفما يشاء. ويغطي بها عري هذا النظام الذي قام على التمييز والفساد والرشوة والمحاصصة والزبائية منذ يومه الأول.
وها هو جعجع بعد مائة سنة على تشكيل هذا النظام، يفضح حقيقة التركيبة القائمة وفسادها، حيث لم يتبدل فيها غير الأسماء والتواريخ.
يستقوي جعجع علناً بالمال السعودي المسروق من جيوب أبناء شعب نجد والحجاز، يبتز فيه اللبنانيين ليينتخبوا مرشحيه مقابل خفض قيمة الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية، التي ما كان لها أن تهبط وتفقد قيمتها، لولا سرقات زعماء السياسة والطوائف وأصحاب المال والأعمال، الذين تحميهم وتوجههم عقوبات الحصار الأميركي، التي تضغط لإلحاق لبنان بحلفاء العدو الصهيوني من مدعي الإنتماء للعروبة والإسلام.
هؤلاء المتزعمين المتنمرين المتسلطين على اللبنانيين، يدركون جيداً زيف ما يسمى "ديموقراطية" و"إنتخابات" و"سلطة رأي عام". فهي مجرد شكليات تغطي إغتصابهم للمواقع السياسية والحزبية والقيادية في الدولة والمجتمع.
هم يدركون أن الديموقراطية السياسية لا قيمة لها، ما لم تقترن بالديموقراطية الإجتماعية. وأن توفير ضرورات العيش للمواطن شرط لتحقق حريته وقدرته على الإختيار.
كان الرئيس سليم الحص يقول أن في لبنان حرية لكن لا توجد ديموقراطية. بما معناه أنك تستطيع أن تقول ما تشاء، لكنك لا تستطيع أن تغير حرفاً في هذا النظام، الذي أنشاته فرنسا وسلمته لتحالف زعماء الطوائف وكبار المتمولين وأصحاب المصارف، بمحاصصة يحددها لهم ميزان تبعيتهم وولاؤهم للأجنبي وعملهم في خدمته، فالمواطن المرتهن للقمة العيش لا يستطيع أن ينتخب بحرية، خصوصاً أن السابقين واللاحقين من الحكام الفاسدين يتعاملون مع أتباعهم بمنطق "جوع كلبك بيلحقك". وهذا المواطن الذي يتم إذلاله صبحاً ومساءً ومع كل خدمة أو سلعة يحتاجها، لا يملك قرار نفسه في إختيار من يمثله في المجلس النيابي، لأن الذي يملك قدرة المنح والمنع يهدده في شؤون حياته.
وكيف لمن يذل في الطوابير للحصول على حاجاته الحياتية والخدماتيه الضرورية. وهيهات أن يحصل عليها. أو يقف كاليتيم المقطوع الحيلة والسند أمام محطة المحروقات، أو أمام فرن الخبز وفي الإستهلاكية والصيدلية؛ ولا يجد في جيبه ما يكفي لشراء حاجاته ولوازم عائلته وأطفاله، كيف له أن يقترع بحرية، فيما الدولة ومؤسساتها وأمنها وعساكرها يقفون سداً حائلاً في وجهه، عند أي تحرك جدي منه لإستهداف سارقي أمواله ومغتصبي لقمة عيشه. ولا يجد كثيرون في هذه الحالة مفراً من الخضوع لابتزاز "زعمائهم"، فينتخبونهم مقابل سد رمقهم ورمق أطفالهم.
واللبناني في هذه المعاناة المستمرة، عبد وأسير لصاحب العمل، في ظل عجز الدولة عن حماية حقه في العمل في كل الظروف. وهو أسير كذلك لجشع أصحاب المدارس وكارتيلات مؤسسات التعليم الطوائفي المتضامنة دائماً. واللبناني الذي يفتقد القدرة لممارسة حق السكن وحق التملك، الذي زاحمه عليه رئيس الحكومة الحالي، الذي إستولى على قروض الإسكان لزيادة ثروته المتضخمة بمليارات الدولارات، كيف له أن ينتخب بحرية ولا يصوت صاغراً عن غير قناعة، حتى لا يجوع أبناؤه وينامون على قارعة الطريق. ومن أين تأتي له القدرة ليكون حراً في إختيار نوابه؟
هي ديموقراطية زائفة، بل هي ديموقراطية إستعباد هذه التي يسمونها إنتخابات في لبنان، تتحكم فيها "تقديمات" أهل السياسة والمال وزعماء الطوائف ورشاويهم قبل وأثناء الإنتخابات وهم الخبراء في تطويع الرأي العام.
وهي ديموقراطية تتدخل فيها وتديرها السفارات الأجنبية، التي تدعم بنفوذها وأموالها مرشحين وتحارب آخرين. بل وتفرض على من يدعون أنهم وزراء وأصحاب قرار أن ينفذوا لها رغباتها، بما يحقق أهدافها ويوصل أتباعها إلى المواقع التي تريدها لهم. وتلك السفارت وأتباعها من رموز الحكم والسلطة، يستعملون أقصى درجات العنف لإخضاع اللبنانيين وسوقهم في دروب مصالحها. وهل هناك من عنف وقسوة أقصى من القتل البطيء إفقاراً وتجويعاً وإذلالاً.
والأنكى هو تصنع زعماء السياسة الخلاف فيما بينهم، لشد عصب أتباعهم، خصوصاً عندما يدعون الحرص على مصالح الرعية التي يتسلطون عليها ويسرقون اللقمة من أفواهها. وفي ظل عدم وجود البديل الصالح، بل الأكثر سوءا، طالما أنه كخصمه تابع للسفارات وعامل في خدمتها، نفهم لماذا يقارب عدد مقاطعي الإنتخابات نصف من يحق لهم الإقتراع من اللبنانيين، فهل يجروء زعماء السياسة والمال والطائفية على إجراء إنتخابات يقترع فيها المواطن المالك حريته وليس المستعبد منهم؟