أقلام الثبات
يعلم اللبنانيون، باستثناء الجاهلين منهم، أن لبنان سيصل إلى الحالة التي هو عليها حالياً، منذ أن بدأ الفاسدون تنفيذ مخطط توريطه في الديون المحلية، ثم حولوها إلى ديون بالعملة الصعبة، تحت حجة مخجلة، لم يبذل أصحابها أي جهد لإخفاء حقارتها؛ وهي أن الأميركيين ومن أموال أتباعهم حكام النفط، سيوفون عنّا تلك الديون، عندما ننضم إلى قطار "السلام" المنطلق في المنطقة؛ وهو في الحقيقة قطار إستسلام الجبناء. ولذلك، أوغل الحكام والمتزعمون اللبنانيون في السرقات والهدر والفساد، محكومين بجشع البعض منهم؛ وبتآمر البعض الآخر، الذي كان يدرك أن وصول لبنان إلى هذا الدرك الخطير من الأزمة المالية والاقتصادية، سيجعله هدفاً سهلاً لحملات الإخضاع والترويض السياسي، بهدف قبول الإملاءات الأميركية وتلبية المطالب "الإسرائيلية"، التي لا مصلحة لانخراط المملكة السعودية فيها، سوى لعب دور الخادم الأمين والمنفذ المطيع عند الأميركي و"الإسرائيلي".
كان أولئك المتآمرون على لبنان وشعبه، يعرفون أن ذلك الوعد بإيفاء الدين، حتى لو قبل لبنان بتقديم تلك التنازلات المستحيلة، هو وعد لا توجد ضمانة على تحقيقه. وأن توريط لبنان بالقبول بالتنازل للعدو في مسائل الأرض والمياه والنفط وترسيم الحدود؛ وكذلك في توطين الفلسطينيين ودمج المعارضين السوريين وعوائلهم في أماكن سكنهم؛ ونزع قوة لبنان المتمثلة بسلاح المقاومة (إذا كان ذلك ممكناً)، هو خسارة كاملة مقابل "شيك" بلا رصيد. فقد جرى توريط مصر بإتفاقية "كمب ديفيد" المشؤومة، من دون أن يوفى عنها أي قرش من ديونها التي ما تزال غارقة فيها. بل انها فقدت دورها العربي والإقليمي ووهجها الدولي. وجرى توريط الأردن باتفاقية "وادي عربة"، فإذ به يستجدي الصهاينة ليزودوه ببعض المياه التي يسرقونها من مياه نهر الأردن ومن آبار فلسطين وبحرها. ووضعه الإقتصادي الحالي لا يحسد عليه. وكذلك تورطت السلطة الفلسطينية باتفاقية "أوسلو"، فكانت جائزتها الكبرى أن إغتال العدو "الإسرائيلي" زعيم تلك السلطة الراحل ياسر عرفات بالسم. وتحولت السلطة بعده إلى مخبر صغير عند سلطات الإحتلال، تحت بند التنسيق الأمني بين المحتل وبين المغلوب في وطنه.
لكن المخطط الخبيث وصل إلى نهاياته وبات اللعب على المكشوف، من الداخل والخارج، فأزلام الأميركي المتعيشين على أموال الرشاوى الخليجية، باتوا صدى للأوامر الأميركية و"الإسرائيلية" والسعودية. حتى أن ساسة السعودية باتوا يتحدثون باسم الشعب اللبناني ويقررون ما يريده هذا الشعب، في وقت يبتزون فيه لبنان واللبنانيين بكل ما لديهم من نفوذ وأوراق ضغط محلية وإقليمية؛ بما فيها دفع أبواقهم الإعلامية المأجورة لتوتير الأجواء اللبنانية بكل ما تحمله من تحريض ومن حضّ على ملاقاة العدو "الإسرائيلي" في مطامعه. وكذلك في الترويج للخنوع أمام الإستعلاء السعودي وفي تدخله في الشؤون الداخلية اللبنانية.
حتى أن الأصوات المطالبة بدفع ثمن التبعية للغرب بالسياسة، حفاظاً على المصالح الإقتصادية التي يجني ريعها أفراد، باتت ترتفع بكل وقاحة. مقابل الخجل والرفض المضمر من قبل كبار المسؤولين، تجاه العروض الشرقية وتحديداً من قبل روسيا والصين وإيران، التي تشكل باب إنقاذ للبنان من أزمته المالية والإقتصادية الخانقة. كما تشكل قلباً للطاولة على الذين يحاصرون لبنان ويبتزونه. والذين يرفضون تلك العروض التي تدفع لبنان نحو النهوض، متورطون حتى آذانهم في مشروع حصار لبنان لتركيعه وتطويعه. يكفي كما بات معروفاً أن العروضات الشرقية لا تتضمن مطالب سياسية ولا طلبات توزير لهذا أو ذاك، مثلما تتضمن الإملاءات الأميركية، أو الإبتزاز السعودي، أو مثل رغبات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. لذلك، مع إشتداد الضغوط على لبنان، يحتدم الكباش حول الخيارات اللبنانية في حرب الإتجاهات الدائرة فعلياً، بين من يريد تقديم التنازلات في السيادة والسياسة والكرامة والمستقبل والمصير، مقابل تحصيل لقمة العيش. وبين من يريد الحياة بكرامة محتفظاً بمصادر قوته وبحقه في مستقبل ومصير لا يخجل منه هو والأجيال اللاحقة. فهل هناك من يجروء على قلب الطاولة على أعداء لبنان ويتجه شرقاً نحو التعامل الندي الذي لا زحف فيه ولا تقبيل أياد وأقدام، مثلما يفعل أتباع السعودية والسفارة الأميركية؟