أقلام الثبات
يغرق لبنان هذه الأيام بدعوات غير بريئة، للعودة إلى ما يسمى "الحضن العربي". في حين أن لبنان الذي شهد حروباً دموية، منذ إعلانه دولة، دفاعاً عن هويته العربية، التي قاوم شعبه في ظلها كل أنواع المستعمرين والمحتلين. وأسقط مشاريع التقسيم والإستتباع، لا يحتاج إلى شهادة على عروبته. خصوصاً أن الأصوات التي تطلق تلك الدعوات، هي آخر من تصدق غيرته على العرب والعروبة، فهي صادرة عمن عادى العروبة وحاربها وشنّع عليها وشتمها وقال فيها "إن العرب جرب"، عندما كانت ضد المستعمر وهيمنته؛ وكانت تعبّر عن مشروع عربي واعد لصناعة الوحدة والقوة والتقدم. كانت عروبة شعبية ثورية لطالما كان لبنان في صفوفها الأولى. وهي تتناقض مع عروبة النظام الرسمي العربي القائم، التي تعكس صورة حكام هذا الزمن، هي مثلهم عروبة تبعية مزورة ومدعاة، تأتمر بأمر الأميركي وتنبطح أمام "الإسرائيلي"؛ وتبيع فلسطين وشعبها ومقدساتها بمقاعد حكم وتيجان ملوك. وتقدم كل ما يطلب منها لتقنع عدوها بولائها له وتصهينها، بل وتتخلى عن دينها لصالح بدعة "الإبراهيمية"، إكراماً لعيون الغزاة الذين إغتصبوا فلسطين ويعملون على السيطرة على محيطها كله.
أي حضن عربي هذا الذي يعتبر تل أبيب قبلته. والتطبيع مع الغزاة المحتلين وجهته. وينصب سمير جعجع زعيماً على المسلمين السنّة في لبنان، لأن جعجع يخدم مشروع التطبيع مع العدو، فهو تدرب وتسلح مع قواته على أيدي "الإسرائيلي" في بداية إنطلاقته. ومن شبّ على شيء شاب عليه. وكل أعماله ومواقفه تؤكد أنه يعمل حالياّ وفق مخططات السفارة ألأميركية. التي أوكلت إلى السفارة السعودية مهمة رعايته وتمويله، فبات المعتمد اللبناني الأول للوهابية السعودية التكفيرية المتطرفة، التي تدعي الإسلام. لكنها لم تحارب في حياتها ولم تقتل إلا المسلمين.
أي حضن عربي هذا الذي يدعى لبنان للركون إليه، فيما القائمون عليه يعملون لوضع لبنان على سكة حرب أهلية مدمرة، أين منها حرب 1975، التي إفتعلت لإيصال بشير الجميل إلى قصر بعبدا. فهل نحن أمام مشروع حرب تمولها مملكة آل سعود، لإيصال رجلها سمير جعجع إلى كرسي رئاسة الجمهورية اللبنانية؟ وهل سيستدعي جعجع إجتياحاً "إسرائيلياً" مماثلاً، كاجتياح عام 1982، ليتم تنصيبه رئيساً؟ وهل يكفيه عدد مقاتليه الخمسة عشر الفاً، لينتصر ويقدم رأس المقاومة إلى الأميركي و"الإسرائيلي" والسعودي، أم أنه موعود بتدخلات عسكرية خارجية؟
صحيح أن تنصيب جعجع، المسيحي المتطرف، معتمداً أولاً لمملكة آل سعود في لبنان، أمر نافر، لأن المملكة تدعي قيادتها وزعامتها على المسلمين السنة في لبنان والعالم. وهي تترأس النظام الرسمي العربي، منذ أن غاب جمال عبد الناصر وغابت بعده مصر عن دورها القيادي العربي وتأثيرها العالمي. لكن من الطبيعي أن يكون جعجع والمتطرفين أمثاله، في هذا الحضن "العربي" السعودي، التابع للهيمنة الأميركية والخاضع للإملاءات "الإسرائيلية".
أما غير الطبيعي فهو أن يكون لبنان، الذي واجه التتريك وقاتل المستعمر الفرنسي؛ وحارب ضد حلف بغداد؛ ودافع عن المقاومة الفلسطينية، رغم شوائبها، من غير الطبيعي أن يكون لبنان هذا، في حضن يوصله إلى الصهاينة وإلى التطبيع معهم. فلبنان يحتاج إلى حضن عربي حقيقي يضمه. ولا يمكن أن يركن إلى حضن متصهين عبري، يبتزه ويغويه ليخسر نفسه وتاريخه وكل تضحيات ثواره، مقابل رشوة تنقذه من الجوع، الذي دفع إليه على أيدي أزلام ذلك الحضن وحلفائه من حكام لبنان ومتزعميه.
فحذار من هكذا حضن مسموم، لأن مسيرة الإنحدار عندما تبدأ لا يعرف أحد متى تنتهي وأين وكيف. وما تقديم التنازلات والخضوع لإرادة الأقوى والأغنى، إلا صورة عن الضعف والعجز عن حلّ المشاكل؛ مما يدفع إلى القبول بشروط من يمد يد المساعدة، فتبدأ التنازلات وتتوالى. وتذهب التضحيات العظام والأرواح والدماء هباء، كيف لا طالما أن من يبتزك يريد جرك إلى موقع قاتلت وضحيت بأغلى ما لديك لتبعد شره عنك.