أقلام الثبات
من نكد الدهر أن تسمع الذين طالما نعتناهم "بالإنعزال"، لأنهم معادون للأفكار العروبية ومشاريع توحيد العرب، يتحدثون عن العروبة لقاء ثمن هو المال ولا شيء غيره، يتلقونه من جماعات السلفية التكفيرية وتحديداً الوهابية، المعادين بدورهم لكل فكر قومي أو وطني أو ديني لا ينسجم مع فكرهم. والجهتان، الممولة والقابضة، يزايدون على أهل الوطنية والعروبة والمضحين في سبيلهما، متّهمينهم بانهم يريدون سلخ لبنان عن محيطه العربي، في جوقة نفاق مفضوح تعزف لحناً يصدح بدعوات التطبيع مع العدو "الإسرائيلي"، تحت شعارات السلام الزائفة، فيما هي إستسلام كامل لشروط الغزاة الصهاينة.
ومن سخرية القدر، أن الذين طالما نادوا عن جهل بالهوية الفينيقية في مواجهة العروبة؛ لأن الفينيقيين عرب؛ ودعوا للإستغناء عن اللغة العربية وإستخدام الحرف اللاتيني؛ وأعلنوا بأصواتهم أن الخطر على لبنان يأتي من الشرق وليس من جهة الغرب والكيان الصهيوني الغريب؛ وتغنوا بأن "العرب جرب"، عندما كانت العروبة قتال لتحرير فلسطين وسعي نحو وحدة العرب؛ ونضال ضد التبعية والهيمنة الأجنبية، يقفون اليوم صفاً واحداً مع أشباههم، الذين حاربوا جمال عبد الناصر وكل الدعوات والمشاريع والحركات العروبية والإسلامية الصادقة. وكان للطرفين على مدى العقود السابقة، علاقات وثيقة مع المشروع الصهيوني الذي إغتصب فلسطين وشرد أهلها.
وبالتحديد، إن الذين عادوا سورية وحرضوا ومولوا وساهموا في ارتكاب كل أنواع الجرائم بحقها؛ وهي بوابة لبنان الوحيدة إلى محيطه العربي، هم الخطر الفعلي على إنتماء لبنان إلى هذا المحيط. فهم الذين يخرجونه من ثوبه العربي ويصهينون ملامحه، لأنهم ينفذون الإملاءات الأميركية و"الإسرائيلية"، في محاربة كل من يقف في وجه الهيمنة الأميركية ويتصدى للغزاة الصهاينة، في إحتلالهم لفلسطين وسعيهم للسيطرة على بلاد وثروات العرب.
كما ان أولئك الذين سبق ودربهم العدو "الإسرائيلي" وسلحهم، ثم أعاد الجيش الأميركي تدريب 15 ألفاً منهم؛ وقاتلوا مع الشركات الأمنية الأميركية ضد شعب العراق، ليسوا من أهل العروبة ومن حماة عروبة لبنان. لأن أهل العروبة فيه هم الذين حرروه من الإحتلال الصهيوني؛ ورفضوا الإحتلال الأميركي للعراق؛ ويتضامنون مع الشعب اليمني المظلوم والمنتصر على تحالف العدوان السعودي. وهم الذين يدعمون قتال وصمود الشعب الفلسطيني؛ ووقفوا مع سورية في دفاع قيادتها وجيشها وشعبها عن وحدتها وعن هويتها ودورها المقاوم.
جوقة التضليل تلك، المكونة من سياسيين وإعلاميين وإقتصاديين وبعض رجال الدين، يفضحها خطابها بانها تنفذ الأوامر الأميركية الممولة من المملكة السعودية، لدفع لبنان بقوة الضغط والحصار، للإلتحاق بالخيار السعودي-الخليجي، في التطبيع مع الكيان "الإسرائيلي" وتلبية أطماعه، بما في ذلك التسويق لتهويد كامل المنطقة، من خلال إصطناع ديانة جديدة، هي بدعة "الإبراهيمية"، التي تلغي المسيحية والإسلام وتسلم قيادة الأديان لليهود، الذين لا يعترفون بديانات الآخرين.
مشكلة هؤلاء "العروبيين" المزيفين، أن تاريخهم يفضحهم، فهم تعاملوا مع كل غاز ومحتل دخل لبنان. في حين أنهم يتواجهون مع الذين لم يحنوا رؤوسهم يوماً لغاز أو محتل؛ وسبق أن قاتلوا المستعمر الفرنسي في أكثر من منطقة لبنانية. وثاروا عام 1958 ضد إنضمام لبنان إلى حلف بغداد، المكون من صنائع الإنكليز الذين ورثهم الأميركي عنهم. وناصروا المقاومة الفلسطينية، عندما تخلى عنها معظم حكام العرب. وقاتلوا دفاعاً عن وحدة لبنان وعروبته، في وجه المشروع "الإنعزالي" المتحالف مع العدو "الإسرائيلي".
ومشكلتهم أيضاً، أنهم يتنقلون من مشروع هيمنة "إسرائيلية" إلى مشروع هيمنة سعودية، تدور في الفلك "الإسرائيلي". فهم يعلمون أن المملكة السعودية، التي يتغنون بعروبتها، هي صاحبة مشروع "المؤتمر الإسلامي" المتأمرك، في مواجهة مشروع الوحدة العربية، الذي حمله وقاده جمال عبد الناصر والعروبيون في مشرق العرب ومغربهم. وحاربته السعودية بشتى الوسائل، مثلما تحارب أي عمل إسلامي وحدوي صادق وخارج عن الهيمنة الأميركية، بعد أن نصبت نفسها عدوة لكل من يقاوم أميركا و"إسرائيل". ويشهد لها تاريخها المفصل على قياس قبيلة صنع لها الإستعمار شبه دولة، أنها لم تعامل جوارها من بلدان وقبائل إلا بلغة العنف والقتل وإرتكاب المجازر والتوسع والإملاءات. بما لا يختلف بشيء عن السلوك الصهيوني. وهي تؤكد في ما تفعله بحق لبنان، أنها جزء أساسي من الحصار والحرب الأميركية –"الإسرائيلية" عليه، لإخضاعه وسلب قوته ومناعته في وجه الخطر الصهيوني.
أما ما يقصدونه عن الحضن العربي، فهو حضن مستعرب، طالما سوقوا له العاهرات وجنوا من خدمتهم له الثروات. وهو حضن لا يمت إلى العروبة بصلة. وكل إدعاء بالعروبة لا يلتزم بقضية فلسطين وحق شعبها في وطنه، هو تزوير ونفاق. والعروبة تعاون بين أشقاء على خير الجميع، فيما عروبة المطبعين مع العدو "الإسرائيلي" عروبة متصهينة ومتهودة، سقط قناعها عندما عادت المقاومين وفتحت أبوابها لوفود المحتلين الصهاينة، مقابل تضييقها على لبنان واللبنانيين.