أقلام الثبات
مضت سنة على الرئيس سعد الحريري وهو يؤسس لمرحلة جديدة من حياته الشخصية في دولة الإمارات، وبدأت التسريبات الإعلامية مؤخراً بنقل أخبار عزوفه عن المشاركة في الحياة السياسية اللبنانية، بما فيها عدم الترشُّح للإنتخابات النيابية المقبلة، وعدم دعم لوائح إنتخابية تُحتسب عليه في بيروت والمناطق، لأن الدعم يستلزم المال، والضائقة المادية قاسم مشترك بين الحريري وقواعده الشعبية، فلا هو قادرٌ على "رشّ" العملة، ولا قواعده الشعبية التي تتشارك الجوع مع كل الشعب اللبناني، قادرة على النزول مجاناً الى صناديق الإقتراع.
مشكلة ما تُعرف بالحريرية السياسية، أنها قامت على المال، وعلى المساعدات الخاصة وبناء المؤسسات الريعية بإسم العائلة، وجعلت التقديمات سِمَة العلاقة بين الشارع الموالي لآل الحريري وبين ساكن قريطم سابقاً وبيت الوسط لاحقاً، وعندما توزَّعت ثروة المرحوم رفيق الحريري، توزَّع عنها المؤيدون لعدم تضامن العائلة سياسياً مع الوريث سعد، لا بل بات شقيقه بهاء البديل المطروح إقليمياً ومن بعض الداخل، لكن المشكلة أن أي "حريري" مطلوب منه أن يفرش الدولارات والمساعدات لشارعٍ اعتاد أولاً على المال الإنتخابي، وثانياً على الولاء الإقليمي من خلال بيت الحريري، وضاعت الجماهير بين سعد السعودي/ الإماراتي وبين بهاء التركي!
هذا هو واقع إنتماء شريحة واسعة من الشارع السني في لبنان، المنقسِم بسبب اتجاهات ورثة المرحوم رفيق الحريري، حتى في منطقة مثل طريق الجديدة، يرتفع علم سعودي من هنا وعلم تركي من هناك، وكذلك الأمر في طرابلس، مع تعدد الورثة من خارج العائلة مثل "فرع أشرف ريفي"، لكن الناس لم تعُد تبحث عمَّن يملأ رؤوسها بالفكر السياسي والولاءات الخالية من النكهة، بل تبحث عمَّن يملأ بطونها الخاوية وفي مختلف المناطق، والفارق في مزاج الشارع الإنتخابي، أن أي مرشَّح يمكنه القول أنا لا أمتلك المال، بينما بيت الحريري لا يستطيعون ذلك، لأن المال بنى مجدهم وباتوا مقصد السائلين إن لم نقُل المتسوِّلين.
هذه هي الحريرية السياسية: "بيت مال"، بصرف النظر عن موارد هذا المال، وإذا كان تعليم بضعة آلاف من الشباب اللبناني مصدر مباهاة من المرحوم الوالد الى الأبناء، فإنها باتت معزوفة قديمة، بل باتت مثل مقولة أحمد الأسعد لأهل الجنوب: "عمّ علِّملكن كامل"، لتنتقل السيرة الى الخدمات والمراكز الرعائية التي باتت تُقفِل مع الأيام، وانحسرت الأنشطة بشكلٍ متسارع قبل الأزمة الإقتصادية اللبنانية، نتيجة الأزمة المالية الشخصية للرئيس سعد الحريري، والتي انفجرت العام 2017، سعودية مدوِّية، وبدأت مؤسسات المؤسس تنهار في المملكة، الى أن انتهت الى وضع اليد الحكومية السعودية عليها لإستيفاء الديون المتراكمة، وحصل الإفلاس غير المُعلَن سياسياً، وعاد سعد الحريري الى عالم الأعمال إنطلاقاً من الإمارات لتأسيس مرحلة جديدة من حياته.
"الحريرية السياسية" التي احتلَّت على الساحة اللبنانية مقام الحالة الإستثنائية، لا هي إرث كارل ماركس ولا أنطون سعادة، بل هي مزراب مال تدفَّق في زمنٍ مُعيَّن واشترى قواعد شعبية تحت شعار سياسي إسمه "مشروع رفيق الحريري" و"لبنان أولاً" وإندفاعة شعبوية تحت راية "السما الزرقا"، ومع تنطُّح نهاد المشنوق من هنا وفؤاد السنيورة من هناك وأشرف ريفي من هنالك لإحياء إرث رفيق الحريري بالنيابة عن الورثة، فإن الساحة التي اعتادت على سعد وبهاء الحريري ومستلزمات الإنتخابات من ريالات ودولارات لن تملأها الفطريات التي نبتت عند أقدام الهيكل الذي تبيَّن أنه رمليّ هشّ وبُني على رمال..