أقلام الثبات
لا يتوقع اللبنانيون الكثير من حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، في ظل الظروف القائمة وضمن التشكيل الذي تكونت منه. فالظرف صعب ويفوق قدرة الناس على التحمل، فيما تركيبة الحكومة لا تختلف بشيء عن الحكومات السابقة، لجهة القوى السياسية المشاركة فيها، إلاّ بالأسماء وأشكال وربما أعمار الوزراء الجدد.
والحكومة الجديدة، أمام خيار تغشّ الناس فيه بتقطيع الوقت وإدعاء الإنقاذ، أو خيار آخر تضع فيه البلد على سكة الخروج من الأزمة. ولكل من الخيارين شروطه وأثمانه. وإن كان ما تراكم من أفعال وممارسات تحالف القوى النافذة المالية والإقتصادية والسياسية لا يبشر بالخير.
فالحكومة تشكلت من قوى متنافرة غير منسجمة فيما بينها سياسياً ولا إقتصادياً. ولا تملك رؤية موحدة لإخراج لبنان من الأزمة. حتى أنها تختلف في توصيفها للحصار الأميركي المفروض مع عقوبات ضد لبنان وشعبه. كما تختلف في كيفة التعاطي مع أسباب هذا الحصار ومع حرب الإخضاع المالي والإقتصادي، التي تشنها الولايات المتحدة الأميركية على لبنان واللبنانيين.
ولا يختلف الرئيس ميقاتي عن سلفه الرئيس سعد الحريري، إن لجهة تملكه للثروة، أو لجهة علاقاته العربية والدولية. وبالتالي، فهو محكوم بذات الضوابط التي حكمت حكومات الحريري. ولا يتوقع من ميقاتي المغامرة بمصالحه والإتجاه بلبنان نحو الشرق، نحو روسيا والصين وإيران، لإيجاد حلول للأزمات المالية والإقتصادية والخدماتية الضاغطة على اللبنانيين. فتلك الدول تعرض لائحة طويلة من المشاريع التي تحل كثيراً من مشاكل لبنان، تبدأ بإصلاح محطات إنتاج الطاقة الكهربائية وبناء محطات أخرى تعمل على الغاز؛ إستخراج الغاز من البلوكات البحرية، تنفيذ مشاريع حيوية كتحديث شبكة النقل بإقامة أنفاق وإنشاء شبكة مترو؛ وإحياء شبكة القطار لتمتد إلى كل الأطراف. ولا تنته تلك المشاريع بتسليح الجيش. لكن إرتهان تحالف زعماء الطوائف وأصحاب المصارف للغرب عموماً وللولايات المتحدة خصوصاً، يمنع الأخذ بكل تلك المشاريع ويبقي لبنان أسير التبعية للسياسات الأميركية ومصالحها المرتبطة عضوياً بمصالح الكيان الصهيوني المعادي.
وميقاتي، مثله مثل الطاقم السياسي الذي يتناوب على الحكم، أسير الخيارات الغربية وشروطها للإمساك بالقرار اللبناني؛ ودفع لبنان للإنضمام إلى "المطبعين" مع العدو "الإسرائيلي" والقبول بمطالبه ومطامعه؛ وبالإملاءات الأميركية المتبنية لتلك المطالب والمطامع، في الأرض والمياه والنفط والغاز؛ وفرض توطين اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين ونزع سلاح المقاومة. وكل ذلك خدمة للكيان الصهيوني الذي يحتل فلسطين؛ وحلاً للمشاكل التي تواجهه وتقلق قادته وتهدد مستقبله.
ومن هذه الزاوية، تكشف الحكومة الميقاتية إنحيازها المسبق ضد خيار الأخذ بالحلول الجدية للإنقاذ، أو بعروض المشاريع والمساعدات الروسية والصينية والإيرانية، عبر تحديد بند لا لبس فيه في بيانها الوزاري، تلتزم فيه بالتفاوض الفوري مع صندوق النقد الدولي، للحصول منه على قرض يشكل بحد ذاته قنابل موقوتة، جرى تفجيرها مسبقاً في وجوه وأيدي اللبنانيين. الذين بدلاً من أن يدققوا في سياسات الحكومة ومشاريعها المستقبلية، باتوا بفعل السياسات الجهنمية المقصودة من زعماء الفساد وقادة الإفقار المتواطئين مع الحصار الأميركي؛ ولو أنكروا ذلك، يلهثون للتخلص من طوابير الذل أمام محطات المحروقات. كما بات جل همهم السعي لتأمين رغيف خبز يرفع وزير الإقتصاد سعره يومياً ويخفف من حجمه ووزنه. وبات شغلهم اليومي البحث عن شربة ماء نظيفة، بعدما أدت السياسات المقصودة إلى تلويث مصادر مياههم الغزيرة؛ وبات سعر "غالون" المياه للشرب يزيد أو ينقص عن العشرة آلاف ليرة، حسب ذمة البائع. وبات هم اللبناني متابعة تطورات السوق السوداء، لمعرفة إلى أي درك سقطت ليرته أمام الدولار الأميركي. وكذلك لمعرفة أسعار صفائح البنزين والمازوت، الفالتة من عقالها من دون حسيب أو رقيب، بفعل نفوذ وجشع شركات الإستيراد والتوزيع التي يملكها كبار السياسيين والزعماء أو يشاركون في ملكيتها.
هذا الواقع المزري والمقصود من قبل الفاعلين في الدولة، جعل الناس ينسون سؤال الحكومة عن مآل الإستمرار في سياسة الإستدانة، التي يراد لها أن توصل إلى بيت القصيد وهو بيع أملاك الدولة ومؤسساتها، في مواصلة للسياسة المالية الحريرية، التي أوقعت لبنان في مستنقع ووحول الديون، لأن لبنان عاجز في وضعه الحالي عن دفع فوائد تلك الديون وليس عن إيفائها فقط. فهل يكون الحل بالمزيد من الديون، مع ما يرافقها من شروط لصندوق النقد الدولي، أم بالبحث الجدي في تغيير السياسة الإقتصادية المتبعة منذ ثلاثين سنة والتي أدت إلى الكارثة التي نعيشها.
فشروط صندوق النقد لا تهدف ولم تهدف يوماً في أي بلد، إلى تحسين حياة الفقراء ومحدودي الدخل. بل أنها تعمل لحل الأزمة على حسابهم ولصالح أصحاب الثروات وحلفائهم من زعماء السياسة والطوائف.
وها هو رئيس جمعية المصارف سليم صفير، يلتقي وزير المال يوسف خليل ويلقنه ما هو مطلوب منه في الحكومة الجديدة. وأول هموم صفير إعادة تكوين الودائع، التي خان أصحاب المصارف أمانتها وسلفوها لسياسيي الهدر والسرقة والفساد. فيما هربوا ثرواتهم الشخصية والعائلية إلى الخارج. أما الهم الثاني لصفير، يا للوقاحة، فهو بدلاً من المطالبة بهيكلة القطاع المصرفي، الذي سقط في إمتحان حماية أموال المودعين، تراه يدعو إلى "ضرورة البدء بإعادة هيكلة القطاع العام". وكأن صفير وأمثاله عمي عن واقع الفقر الذي ضرب ما يفوق عن 80 في المائة من اللبنانيين، مشكلاً سوقاً شاسعة من العاطلين عن العمل، تدفع اللبنانيين إلى الهجرة بحثاً عن لقمة عيش لهم ولعائلاتهم. وهو بالهيكلة يريد صرف نصف عديد موظفي الدولة مدنيين وعسكريين.
ولم ينس رأس النظام المصرفي "حثّ الوزير خليل على مراجعة السياسات الضريبية والتوجه نحو دعم القطاع الخاص". متناسياً أن الفضيحة التي أوقعها وباء كورونا بقطاع الإستشفاء اللبناني، بينت أن القطاع الخاص لا هم له سوى الربح باقصى درجات الجشع. في حين تولى القطاع العام الإستشفائي المواجهة وسجل نقاطاً ناصعة لصالحه، عندما يتوفر له مسؤولون شرفاء وإدارات صادقة تراقب وتوجه وتحاسب.
تقف حكومة ميقاتي الجديدة أمام مفترق طرق، فأما أن تشعر اللبنانيين أنها تعمل لتسهيل وتنظيم أمورهم وتخفيف ثقل الأزمة عليهم، التي سببتها خيانة النافذين لأمانة الحكم والقيادة، فتكون بحق حكومة إنقاذ، أو أنها كوصفات صندوق النقد، تكمل مسيرة الإنهيار الحالية لدفن ما تبقى من جوعى أحياء من اللبنانيين، ممن لم تسعفهم ظروفهم للهجرة من هذا الفخ الذي إسمه الكيان اللبناني، بكل التفاهات التي رافقته منذ أن أوجده المستعمر الفرنسي.