نظام لا يوصل إلَّا إلى السوق السوداء (4) ـ أحمد زين الدين

الجمعة 17 أيلول , 2021 02:24 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

منذ أواخر العام 1992، بدأت مسيرة ما بعد  "الطائف" التي تميزت باتساع المديونية العامة والمشاريع الكبرى من دون وضع أي دراسة عن الجدوى الاقتصادية وبأكلاف مضاعفة، ومثال على هذه العقلية ما أورده الوزير الأسبق هنري إده في كتابه "المال إن حكم" فيقول: "منذ سنة 1991، طلب رفيق الحريري إلى دار الهندسة وإلى "بيشتيل" Bechtel القيام بدراسة اقتصادية، في حين يُهيئ قدومه إلى إدارة البلاد، كان المطلوب إعداد جدول بالحاجات الاكثر إلحاحاً، ولائحة بمشاريع الإعمار والإنماء مع جدول زمني للبدء بها، وتقدير كلفتها واقتراح موارد تمويلها، وروزنامة لتسديد الديون المرتقبة، اشرف على هذه الدراسة روبير صولومون الاقتصادي الانكليزي القدير المنتسب إلى دار الهندسة، وجاء ليقدم إلى الرئيس الحريري نتيجة أبحاثه الطويلة والمقترحات التي ارتآها، هو وفريق عمله، في ثلاثين كتيباً من التقارير والبرامج القطاعية إلا أنه لم يكد ينهي عرضه التمهيدي، حتى قاطعه الحريري قائلاً: "أنت كما فهمت من كلامك تقترح عليّ مخططاً بمليار ونصف مليار دولار للسنتين الأوليين، ومليارين ونصف للسنوات الثلاث اللاحقة، هل هذه فكرتك؟".

أجاب صولمون: نعم سيدي الرئيس على افتراض مسيرة انمائية متسارعة، وحجم مساعدة عالمية إيجابية.

قل لي، يا صديقي، هل سمعتني أطلب إليك تحديد المبالغ أو مهل الانجاز قال الحريري؟ طبعاً لا، إذن أرجو أن تعدل اقتراحاتك، وتعد لي خطة عشرية من اثني عشر مليار دولار على الأقل، أما التمويل فسأنجح في الحصول عليه، وطرق التمويل سنعثر عليها في فائض الموازنة ابتداءً من الدورة الثالثة، وفي الأرباح التي ستحققها مؤسسات الكهرباء والاتصالات التي سنكون قد انجزنا إعادة تأهيليها" وهو تصريح استعاده حرفياً أمام مجلس النواب، في حكومته الأولى.

حين عاد صولومون مع زملائه من الاجتماع بدا على سحنته البريطانية أثر الصدمة، فالصيغتان المختلفتان اللتان أعدهما، بدقة، للنهوض والنمو على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مع المتغيرات المتعددة لكل منها، وتبرير سلم الأولويات ومصادر التمويل وطرق التسديد، وأكثر من عشرين دراسة قطاعية، مسحها الرئيس الحريري بقفا يده، ولم يبق لصاحبنا أي احتمال سوى طاعة الأوامر".

وللدلالة على المأساة التي يعيشها اللبنانييون اليوم، والكارثة التي وصلوا إليها نشير إلى أن أرقام الدين عند الفصل الأخير من سنة 1992 ، عندما تولى الرئيس الراحل رفيق الحريري رئاسة الحكومة، لم يكن الدين العام قد تجاوز مليار و700 مليون دولار أي أنها في خلال خمس سنوات تضاعفت بنحو نسبة ألف بالمئة.

ويروي لي نائب سابق عن دائرة بعبدا أن سياسياً لبنانياً جاءه في أواخر عام 1992، قرض من بنك بريطاني محول على أحد المصارف اللبنانية الذي دمج لاحقاً مع بنك آخر، بقيمة 80 مليون دولار بفائدة 2 بالمئة.

سحب السياسي المبلغ وحوله إلى ليرة لبنانية التي كان سعر صرفها آنئذ 2800 ليرة لكل دولار، ووظفها في سندات الخزينة التي كانت فائدتها 45 بالمئة، وفي خلال أيام قليلة تراجع سعر صرف الدولار ليستقر على 1500 ليرة، أي أنه ربح بالفائدة 43 بالمئة، وربح في كل دولار 1300 ليرة، أي أنه ربح تلقائياً نحو 69 مليون و335 ألف دولار، وربح بالفائدة نحو 34 مليون و400 ألف دولار، ويكون معدل ما ربحه في أيام قليلة جداً، نحو 97 مليون و735 ألف دولار، أي ببساطة فإن مبلغ الـ80 مليون دولار أصبح في أيام معدودات نحو 177 مليون و735 ألف دولار.. فكم من رجال الطبقة السياسية التي تناوبت على المسؤولية والنيابة ما بعد الطائف قد أثروا واكتنزوا الثروات على هذه الطريقة الجهنمية؟!.

إلى ذلك، يضاف المشاريع العملاقة التي تم تنفيذها وكلفت أضعافاً مضاعفة، يدفع ثمنها اللبنانيون اليوم أفدح الأثمان، وعلى سبيل المثال لا الحصر، أن مشروع تحديث مطار بيروت الدولي كانت دراسته تشير إلى تكلفة بحدود الـ400 مليون دولار، لكن هذا الرقم أخذ يتصاعد مع عمليات النهب، حتى تخطت التكلفة المليار دولار، مما يعني أن أكثر من 600 مليون دولار "شفطها" الملتزمون وزبانيتهم، فمثلاً مسألة تلزيم الزجاج كان يفترض في المناقصة التي أجريت على الملتزم الذي قدم عرضاً بـ7 ملايين دولار، لكن بقدرة عجيبة رسا الإلتزام على نجل رئيس الجمهورية في حينه إلياس الهراوي، جورج، بمبلغ 12 مليون و500 ألف دولار، وقام جورج بتكليف صاحب العرض الأقل (أي 7 ملايين دولار) بتنفيذ الإلتزام، الذي ربح فيه نجل الرئيس 5 ملايين و500 ألف دولار من دون أي جهد أو تعب، بما معناه أن الخزينة العامة نهب منها ببساطة 5 ملايين و500 ألف دولار من الزجاج فقط.. وهكذا دواليك في كثير من المشاريع (المدينة الرياضية، سوكلين، سوليدر، النوماندي، الأملاك البحرية والنهرية والاستيلاء على المشاعات وهلمَّ جرا...)

منذ بدء مسيرة الطائف، وتحديداً منذ العام 1992، بدأ "حلب" لبنان وأهله، وصار نهج الفساد غير محدود، فتحول إلى ما يشبه "بقرة واصا باشا" وتعمم الفساد ليصبح ما يشبه "ثقافة حياة"، في ظل انتشار جمعيات خيرية واجتماعية، كالفطر تحت اسم "المجتمع المدني"، يحظى قسم كبير منها بتمويل غربي وعربي، وبعضها بتمويل رسمي كثير منها على رأسها زوجات أو أبناء مسؤولين، وبالتالي فإن الفساد عم اجتماعياً، ليشمل شرائح واسعة من الناس، صار ينعكس على الشارع، انقساماً خطيراً، وبات لبنان مهدد فعلاً بوحدته الوطنية، ولهذا لا عجب أبداً أن يحتل لبنان المرتبة 138 من أصل 180 دولة، وفق "مؤشر مدركات الفساد لعام 2018".

كانت البداية في سلوك تعميم الرشاوى والنهب تحت عنوان حل مشكلة المهجرين، واتسعت جمعيات ما يسمى "المجتمع المدني" مع بدء النزوح السوري إلى لبنان، واتسعت أكثر بعد انفجار المرفأ، ووصل الأمر إلى حد اعتراف دايفيد هيل بمليارات الدولارات التي قدمت لما يسمى "المجتمع المدني".

في نفس الوقت كان هناك مع بداية مسيرة "الطائف" وهم بحصول السلام مع العدو تحت ظل محادثات مدريد واتفاقات أوسلو، وأن الدين العام مهما تراكم سيمحى بعد السلام.

ويروي أحمد طباره في كتابه "محطات" أنه في نيسان 1994 فوجئ في أحد أروقة المقر الرئاسي المؤقت في الرملة البيضاء، بالرئيس الشهيد رفيق الحريري يتجاذب الحديث مع فؤاد السنيورة بأنس وراحة وعلامات الارتياح بادية على وجهيهما، ويقول: "تابعت طريقي بعد أن ألقيت التحية حتى لا أقطع عليهما الحديث وحفاظاً على أدب التلاقي العرضي.

مررت إذاً وابتعدت عنهما بضعة أمتار وإذا بي أُفاجأ بالرئيس الشهيد يناديني "شو يا أحمد شو الأخبار".

وبعفوية وصدق ومحبة قلت له: والله يا دولة الرئيس أريد أن انقل لك ما قاله الي والدي قبل وفاته.

أجابني: خير إن شاء الله ماذا قال لك؟

أجبته: قال لي انتبه يا بني "اليهود بيحفروا بير بالإبرة بينما نحن العرب نتفاعل بمفهوم الصدمة نزعل لأي سبب ونُسترضى ببوسة لحى".

أجابني: ماذا تعني؟

قلت: يا دولة الرئيس من قال لك إن اسرائيل تريد السلام .. أتصدق أنهم أهل سلام؟ ألم ترَ ما فعلوا بما بنيته في كفرفالوس ... لا يا دولة الرئيس إن اسرائيل مجتمع حرب ... يعيش على الحرب، وهم مجموعة مرتزقة عملُها ضربنا كلما شممنا رائحة إبطنا ... رويداً رويداً يا دولة الرئيس، أتؤمن حقاً أنهم يريدون السلام...

نظر إليَّ بعينين فيهما تساؤل واستغراب ...

قناعة وتعجب .. تفهم واستفهام .. ألم ورفض ... قبول ومرارة ...

عندها سمحت لنفسي بالاستطراد فقلت:

وماذا إن افتعلوا حرباً وحطموا ما تقوم به .. أليس التروي بالاستدانة أنفع من تصديقهم؟

لم يجبني .. نظر إليَّ بعينين فيهما كل شيء .. نعم كل شيء ومن دون ان يجيب فتح باب الشرفة وخرج.

لم يبق أمامي إلا الأخ العزيز دولة الرئيس فؤاد السنيورة ... وبمفهوم الأخوة ومعرفتي به منذ الطفولة قلت له:

شو يا فؤاد .. وين منصير إذا ما في سلام؟

أجابني أطال الله عمره: "منفوت بالقزاز".

 

حلقة أخيرة (تدمير المجتمع الأهلي وتفتيته، وهيمنة الأسواق السوداء).
 


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل