مقالات مختارة
كثيرون يتصورون أن الولايات المتحدة الأمريكية هي صاحبة اليد العليا، وأن بيدها القرارات الكبرى، وهي التي تحدد مصير الأمم والدول، وتُسقط أنظمة وتركّب حكومات، لكن بقليل من التعمق نرى:
١ـ مزاجية الولايات المتحدة، بمعنى أن رئيساً يأتي ويحدد سياسة بناءً على أجندته وأفكاره وخلفياته، ويعقبه رئيس آخر يتصرف بعكس سلفه بصورة كاملة، والنموذج الأخير أمام أعيننا، حيث كان أوباما يتودد لإيران ويرسل الرسالة تلو الرسالة لآية الله خامنئي وأنجز أخيراً الإتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية، إضافة إلى قرارات أخرى اتخذها في موضوعات داخلية، لكن ترامب فور دخوله البيت الأبيض انقضّ على كل انجازات سلفه ورأى في الإتفاق الأمريكي مع الجمهورية الإسلامية أسوء إتفاق في تاريخ الولايات المتحدة وأعلن الخروج منه وعليه.
وفي مجال العلاقات مع المملكة العربية السعودية كانت إدارة أوباما تتعامل ببرودة مع المملكة فيما انقلب ترامب الذي كان يهاجم السعوديين قبل انتخابه إلى متودد حتى أقصى الحدود، وهو أعلن مراراً بأنه لا يعنيه في هذه العلاقة إلاّ كسب مزيد من المال، وأسمى انظمة الخليج بصورة عامة بأنهم " البقرة الحلوب "، وكان في خطاباته يتباهى بأنه باتصال هاتفي قصير لم تتجاوز مدته الدقيقة الواحدة حصل على مبلغ ٥٠٠ مليون دولار من الملك السعودي سلمان، وهو قام بالتغطية على جريمة قتل جمال الخاشقجي مقابل مال تسلمه من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، لكن جو بايدن ربح الرئاسة وكانت أحدى ركائز حملته العودة إلى الإتفاق النووي مع إيران ومتابعة قضية خاشقجي، وهو أعلن أنه لن يتعامل مع ولي العهد السعودي بسبب ضلوعه في تلك الجريمة المروعة.
ثم إن سياسة الولايات المتحدة تنقلب بين عشية وضحاها، فعدو الأمس يصبح صديقاً بل حليفاً، وحليف الأمس يصير عدواً خطيراً يهدد المصالح القومية للولايات المتحدة، ففي النموذج الأول هو الرئيس العراقي صدام حسين الذي كان حتى قبل انتصار الثورة الإسلامية هو العدو الرئيس للسياسة الأمريكية، لكنه تحول إلى حليف أساسي للولايات المتحدة ووضعت الإدارة الأمريكية جميع إمكاناتها تحت تصرفه في الحرب ضد الجمهورية الإسلامية، وشجعت أيضاً حلفاءها وأصدقاءها في العالم لتقديم كل مساعدة للعراق في مواجهة إيران، ورفعت إسمها من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وأعادت العلاقات مع العراق ورفعت العلم العراقي على سارية السفارة في العاصمة الأمريكية بمشاركة وزير الخارجية الأمريكي هيغ ووزير الخارجية العراقي طارق عزيز.
لكن ما أن توقفت الحرب حتى بدأت أمريكا بالتحرش بالرئيس العراقي بدءاً بـ " المدفع العملاق " ثم بـ " الصاعق النووي " ثم بـ" أسلحة الدمار الشامل "، وأخيراً كان توريطه بغزو الكويت لتكون الذريعة لإعلان الحرب ضده، وأخيراً كان إسقاطه في العام ٢٠٠٣.
والنموذج الماثل أمامنا اليوم هو التحول في العلاقة مع جماعة طالبان الأفغانية حيث كانت العلاقة الأمريكية معها متينة إلى أقصى الحدود وكان يستقبل قادتها الرئيس الأمريكي ريغان في البيت الأبيض، وكانت وسائل الإعلام الأمريكية تصفها بـ " المجاهدين " لكن الجماعة تحولت بعد فترة إلى حكومة راعية للإرهاب، وطالبتها الإدارة الإمريكية بتسليم أسامة بن لادن الذي كان قبل ذلك رجل أمريكا الأمين والموثوق في أفغانستان، وتذرع الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن بأحداث ١١ أيلول ليسوق الإتهام فوراً إلى القاعدة ويعلن الحرب على أفغانستان واحتلالها، وبعد أن فشلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة الجمهورية والديمقراطية في الاستمرار في تحمل أعباء وتكلفة البقاء هناك انقلبت مجدداً إلى التقارب مع جماعة طالبان وعقدت اجتماعات عديدة معها، وأخيراً سهلت لها السيطرة على البلاد وتركت لها قواعدها العسكرية ومخزوناً هائلاً من احدث أنواع الطائرات والمعدات والأسلحة.
أما النموذج الآحدث فهو التحول في السياسة الأمريكية تجاه سوريا حيث كان الموقف الأمريكي حتى قبل أسابيع عدم السماح لأي تعامل لبناني وعربي مع الدولة السورية القائمة، بل كان كل الدعم والمساندة لمعارضي النظام والثائرين عليه، لكن ما أن كان إعلان تحرك ناقلات المحروقات من الجمهورية الإسلامية إلى لبنان الرازح تحت أشد العقوبات الأمريكية بسبب تغلغل حزب الله في أجهزة الدولة اللبنانية، حتى سارعت السفيرة الأمريكية في لبنان بالإعلان عن رفع قيود بلدها عن التعامل مع سوريا، ودفعت أمريكا بالدولتين العربيتين مصر و الأردن إلى التعاون مع سوريا لتأمين الكهرباء والغاز للبنان، وتم ذهاب وفد وزاري لبناني رسمي إلى دمشق، وعقد لقاء رباعي في عمان ضمت الأردن ومصر وسوريا ولبنان، ورضيت الولايات المتحدة بأن تأخذ سوريا نصيبها من الغاز والكهرباء الذين يمرّان عبر أراضيها، وحركت العراق أيضاّ لتقدم مليون برميل من النفط مجاناً للبنان، ورضيت أمريكا كذلك بتاليف الحكومة اللبنانية بعد أكثر من عام وأن يكون فيها وزراء لحزب الله، وخفتت فجأة كافة الأصوات المنادية بإسقاط النظام السوري، وصار كل الحديث يدور حول الحل السياسي في سوريا، وفي لبنان رضي جميع الأطراف بما توافق عليه الرئيسان الفرنسي والإيراني وسقطت جميع الإعتراضات من الحريصين على الإستقلال والمطالبين بالسيادة الوطنية.
أمام هذه النماذج من الأداء الأمريكي المزاجي والمتقلب والذي أوردنا قليلاً منها، وبعد تراجع القوة الأمريكية الإقتصادية أمام الصين والعسكرية أمام روسيا، وذهاب هيبتها بفعل السياسة الإيرانية في التعالي عليها من خلال رفض التفاوض المباشر معها، وتوسل الإدارة الأمريكية السابقة والحالية كي تقبل إيران بالجلوس معها ولو لأخذ صورة تذكارية، وأخيراً رضوخها للشروط الإيرانية، واستعداد الإدارة الحالية لإلغاء كافة العقوبات التي فرضها ترامب المعتوه على الجمهورية الإسلامية.
بعد كل هذا كيف لعاقل أن يراهن على الولايات المتحدة الأمريكية، ويربط سياسة بلده بمزاج رؤسائها، ويعلق الآمال على مواقفها، وينتظر رضى الإدارات الامريكية المتأرجحة في توجهاتها ؟!.
وفي الختام لا بد من التذكير بمآل أكثر حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وشرطي الخليج كله وهو الشاه محمد رضا بهلوي حيث مُنع من اللجوء إلى أمريكا وهو يحمل جنسيتها بعد هربه من إيران، وتشرد في عدة دول حتى دخل أخيراً إلى الولايات المتحدة، لكنه أُدخل فوراً في مستشفى الأمراض العقلية وتمّ التعامل معه على أنه مجنون، وأغلقت عليه الأبواب والمنافذ حتى لا يرى شيئاً خارج غرفته ولا يأتي أحد لزيارته.
وصدام حسين الذي خدم الولايات المتحدة أفضل خدمة بدخوله الحرب مع الثورة الإسلامية في إيران التي كانت وجهتها فلسطين وهدفها تحرير القدس من دنس الإحتلال الصهيوني، وهو تكفل بالتصدي لها وبناء حاجز قوي يمنع الإيرانيين من صرف جهودهم وإمكاناتهم في مواجهة الكيان الغاصب، لكنه في النهاية تمّ إخراجه من حفرة وتم التعامل معه بكل إذلال، وأخيراً تم تسليمه من جانب السلطات الأمريكية إلى الدولة العراقية وتمت محاكمته وإعدامه.
وهنا نذكر المتعلقين بحبال أمريكا في لبنان والمنطقة كلها بكلام لأمير المؤمنين علي عليه السلام يقول فيه: " ما أكثر العِبَر وما أقلّ الإعتبار "، ويقول الله سبحانه: ( إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) صدق الله العلي العظيم.
السيد صادق الموسوي
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً