أقلام الثبات
ناقضت حكومة حسان دياب المستقيلة نفسها، في إجتماعها الطارىء لتصريف الأعمال في السراي، برفضها قرار الحاكم بأمره رياض سلامة رفع الدعم عن المحروقات، من جهة؛ وهو الذي رفع هذا الدعم سابقاً عن مواد كثيرة؛ وبقولها، من جهة ثانية: "إن الحلول الموضوعية التي يمكن أن تخرج لبنان من أزمته العميقة، تكمن في الإسراع في تشكيل حكومة تستأنف التفاوض مع صندوق النقد الدولي، على قاعدة خطة التعافي التي وضعتها الحكومة".
فكيف يرفض الإجتماع الوزاري المذكور رفع الدعم، في الوقت الذي يؤكد فيه تمسكه بالحلول التي يطرحها صندوق النقد، وأولها رفع الدعم بالكامل عن كل السلع، مع لائحة طويلة من الوصفات الخبيثة لحل أزمة لبنان المالية والإقتصادية، على حساب الفقراء ومحدودي الدخل؛ وليس من حسابات كبار المتمولين وأصحاب المصارف والسياسيين؛ وكل من مارس الفساد والسرقة والهدر وهرّب أمواله الحرام إلى الخارج. وهؤلاء هم المسؤولون عما حل بلبنان وباقتصاده وأموال خزينته وشعبه.
والأنكى في هذه المسرحية الوقحة، التي مثلها رجال السياسة أمام أعين اللبنانيين، أن كل من إدعى رفض قرار رياض سلامة، كان مخادعاً بامتياز، فكل المسؤولين وحتى الرأي العام، كانوا على بينة مسبقة من قرار سلامة. ومن يراجع وسائل التواصل قبل ثلاثة أيام من صدور قرار رفع الدعم، يعرف أن القرار كان متخذاً ومتفاهماً عليه بين المعنيين؛ وأن شكل إخراجه هو الذي يؤخر إعلانه، حتى أن المجلس الأعلى للدفاع إستمع لرياض سلامة قبل يوم وهو يؤكد للحاضرين قراره برفع الدعم؛ ولم يعترض أحد، أو ينبه سلامة إلى ضرورة ربط هذا القرار بصدور البطاقة التمويلية وغيرها من إجراءات، لحفظ قدرة الفقراء ومحدودي الدخل على الحصول على الحد الأدنى من متطلبات العيش، حسب ما إدعى المعترضون فيما بعد. وبات مؤكداً أن ما تهرب منه حسان دياب، برفضه عقد إجتماعات لحكومته حيناً؛ وباعتكافه في منزله، بحجة شكوكه بإصابته بفيروس كورونا، لم يساعده في تجنب شرب كأس القرارات "غير الشعبية"، المتمثلة برفع الدعم عن أهم مادة حيوية وهي المحروقات. التي سارع جميع المصرحين والمستنكرين إلى تحميل وزرها لرياض سلامة منفرداً. فيما الأخير مجرد موظف، لا يجروء على كسر قرار رئيس أو وزير، هذا لو كان هؤلاء مختلفون جدياً معه؛ وليسوا "بوطة" واحدة في الضحك على عقول اللبنانيين وخداعهم؛ وتمرير قرارات تدفيعهم ثمن إرتكابات الحاكمين والنافذين والمتزعمين.
مرة جديدة ينتصر تحالف لصوص الهيكل وتجار السياسة وأصحاب المصارف وزعماء الطوائف، فيما الخاسر بكل الحسابات هو الشعب اللبناني، الذي يذل في طوابير تسول صفيحة بنزين أو ربطة خبز أو للحصول على الكهرباء من مافيا المولدات، المشكلة من أزلام وأتباع التحالف ذاته.
لم يرفض رئيس الحكومة ومجلس الوزراء؛ ولا رئيس الجمهورية ومجلس الدفاع الأعلى فرمان رياض سلامة، بل سارع كل فرد من هذا الجمع إلى إعلان التبروء من قرار سلامة. حتى أن حسان دياب الذي قال إن "حاكم مصرف لبنان إتخذ القرار منفرداً"، كان واضحاً في موقفه: "اليوم سيكون علينا جميعاً، في اي موقع، العمل بكل طاقاتنا من أجل إحتواء قرار رفع الدعم وتقليل اضراره الكبيرة".
واللافت أن الحلحلة أصابت بسحر ساحر العقد التي كانت تطوق مساعي تشكيل حكومة ميقاتية جديدة. وباتت مفاوضات الرئيس المكلف نجيب ميقاتي ورئيس الجمهورية ميشال عون "سمناً على عسل" يغمرها التوافق. ولم يعد ميقاتي يريد الإنقضاض على آخر ما تبقى من صلاحيات رئيس الجمهورية وإضعاف الدور المسيحي إلى أدنى درجاته. كما لم يعد عون يعادي وجود رئيس حكومة سني قوي. بل أن "عقل الرحمن" نزل على المفاوضات حول من يتولى وزارة الداخلية ووزارة العدل، اللتان كانتا تشكلان عقدة كأداء تمنع التوافق على تشكيل حكومة جديدة. وبالتالي، فإن قرار سلامة، بشكل أو بآخر، حل مشكلة واجهت حسان دياب ومنعته من عقد إجتماعات الضرورة لحكومته المستقيلة. كما حلت في الوقت نفسه، أهم وأعقد مشكلة واجهت نجيب ميقاتي في سعيه لتشكيل حكومة جديدة، فالجميع كما بات واضحاً، يريد تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي والسير في طريق خطرة، تبدأ بتدفيع الفقراء ومحدودي الدخل كلفة الخروج من الأزمة؛ ومواصلة مسيرة الإستدانة التي لم يعد إقتصاد لبنان قادراً على دفع فوائدها. وبات واضحاً أن الإصرار على الإستدانة، هو الوجه الداخلي المتواطىء مع الضغوط الخارجية لفرض الإملاءات على لبنان. هذا التواطؤ الذي يتجاهل عجز لبنان عن الايفاء باستحقاقاته المالية. وهذا ما سيوصله إلى الخضوع لوصاية الصندوق الدولي ولصاحب القرار فيه وهو الإدارة الأميركية، أي أن ميقاتي سيجدد قديمه وسيدخل لبنان في دائرة الخضوع للشروط الأميركية وهي ذاتها مطالب "إسرائيلية" تشمل الغاز والنفط والأرض والمياه والتوطين؛ وصولاً إلى نزع سلاح المقاومة والإنضمام إلى طابور الزاحفين على وجوههم، لإرضاء العدو "الإسرائيلي" والإعتراف بشرعيىة إغتصابه لفلسطين وتشريد أهلها؛ وصولاً إلى هيمنته على المنطقة و"أسرلتها" وتهويدها، وليس ذلك بمستغرب، فكل من يعمل تحت الإمرة الأميركية والسعودية لا يستطيع الإنكار بأن هذا هو المآل الذي تسعى إليه الضغوط الأميركية والسعودية على لبنان، التي مارست كل الأساليب والوسائل وهي الآن تخنق اللبنانيين إقتصادياً ومالياً. فالعقوبات الأميركية على لبنان، هي حرب إقتصادية على اللبنانيين، يحركها هاجس "الأمن الإسرائيلي"، الذي يتقدم الإهتمامات الأميركية في المنطقة، بقدر ما فيها من محاولة صنع توازنات داخلية لبنانية، تكفل بقاء أتباع أميركا في مواقع النفوذ والسلطة، على أبواب إنتخابات مقبلة، مع إستمرار فسادهم ونهبهم للمال العام، من خلال رهن الذهب وبيع أملاك الدولة عبر التشاركية التي سبق أن اشترطها القائمون على مؤتمر "سيدر". وهي الرمز السري لبيع القطاع العام للقطاع الخاص، أي للذين سرقوا الدولة ومال الشعب. بما يعني أننا سنكون أمام حكومة حريرية، تنفذ السياسات الحريرية المعتمدة منذ ثلاثة عقود، لكنها حريرية من دون الحريري المغيب عقاباً له من السعودية على فشله في تنفيذ مخططات إبن سلمان. فهل سينجح ميقاتي في ما فشل في تحقيقه سعد الحريري؟.