أقلام الثبات
في عام 1996م تم وقف القسم العربى بقناة BBC البريطانية مؤقتا ليتجه العاملون به الى العاصمة القطرية الدوحة للعمل فى قناة إخبارية جديدة، تم إعداد أفضل الاستوديوهات فيها، بالإضافة إلى أحدث الأجهزة والكاميرات والمعدات، بإمكانيات مالية ضخمة جدا لا تقارن بأي قناة إخبارية عربية أخرى، وبدأت باستضافة أكبر المسؤولين والخبراء والصحافيين على مستوى العالم، لتظهر لنا قناة تلفزيونية إخبارية جديدة مختلفة فى الشكل والمضمون تضاهى القنوات العالمية فى تغطيتها للأحداث، وسرعة نقل الأخبار العاجلة فكانت قناة "الجزيرة"، وكل من يتابعها سيلاحظ عدة نقاط:
اولا: عدم ظهور أي إعلانات على شاشة القناة، فمن المعلوم ان مصدر الدخل الرئيسى لأي قناة فضائية هى الإعلانات، فاذا كانت الحكومة القطرية لا تريد الاسثتمار والربح من قناة الجزيرة فماذا تريد إذا؟!
فهل من المعقول ان تنفق الحكومة القطرية مليارات على قناة فضائية دون أى مقابل؟!
ثانيا: من المفترض أن يكون الوضع الداخلى وشؤون الشعب القطرى هى أولى أولويات برامج قناة الجزيرة، ولكن حتى الأن لا نرى الشعب القطرى من قريب أو من بعيد على قناة الجزيرة، ولا يجرؤ أحد من الإعلاميين العاملين بالقناة على ذكر حاكم قطر بأي شيء سلبي أو حتى التطرق للشأن الداخلي القطري.
ثالثا: توقعنا فى بداية انطلاق قناة "الجزيرة" بتلك الإمكانيات الجبارة انها ستكون جسر للتواصل مع الأخر ومخاطبة الغرب، وأن تكون لسان العرب المتحدث للغرب، ولكن الحقيقة جاءت عكس ذلك تماما، فكانت "الجزيرة" كلسان الغرب الناطق باللغة العربية.
رابعا: كان يفترض ان تكون القناة التي دخلت الى كل بيت عربي سبباً لصحوة في ضمير الأمة وشحن الهمم ضد كل محتل ومتسلط عليها، كما كانت إذاعة "صوت العرب" بالقاهرة في الستينات من القرن الماضي، ولكن وجدنا قادة الجيش الإسرائيلي والمحللين السياسيين الصهاينة يتحدثون من تل ابيب لشاشة الجزيرة، وهم يبررون في كل مرة اعتداءات إسرائيل على فلسطين.
وهو الأمر الذي لم يحدث على أي قناة عربية أخرى، بل وجدنا "الجزيرة" تشعل الشرارة فى وجوه الحكام والشعوب العربية، ولا ننسى دور قناة الجزيرة فى إشعال فتيل الأزمة بين الرئيس الليبى معمر القذافى والعاهل السعودي الملك عبد الله، وسورية ولبنان، وفتح وحماس، ومصر والسلطة الفلسطينية، وإتهام كل هؤلاء بالعمالة ... الخ.
وهذا يقول لنا ان الهدف من صنع قناة "الجزيرة" لم يكن الاستثمار مثل باقى القنوات الفضائية، أو مجرد نشر أخبار مثل غيرها ولكن هناك هدف اخر.
فقد أراد الأمير الأب حمد بن خليفة آل ثانى أن يكون لقطر دور إقليمى وصوت على الساحة الإعلامية، ولكن كانت المعضلة أمامه كيف لدولة تبلغ مساحتها حوالي 11.8 ألف كيلو متر مربع وتعداد سكانها أقل من المقيمين الأجانب بها ويكون لها هذا الدور؟
فأعتمد حمد بن خليفة على نظرية ان الدول ليست بالكيلو مترات، ولكن بنفوذها وتأثيرها فى محيطها الإقليمي، ولم يكن أمامة سوى سلاح واحد وهو سلاح الإعلام، ولما لا والدول الرائدة بالمنطقة تتراجع كل يوم عن دورها القيادي.
وقد كان له، فمع بداية العدوان الأميركي على العراق 2003م، تم الإستدعاء المفاجئ لجميع الإعلاميين العرب والأجانب المقيمين فى بغداد أثناء مؤتمر وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف بغرض تغطية حدث عظيم فى ساحة الفردوس (وهى عبارة عن ساحة بها 10 أعمدة أثرية وتمثال لصدام حسين) ليصور الجميع لحظة سقوط تمثال صدام حسين، ورفع العلم الأميركي ويتم تصدير المشهد للعالم، وكأن نظام صدام قد سقط فعليا، وهو المشهد الذى ترتب على اثره حالة فوضى عارمة فى جميع أنحاء العراق، وتفكك جميع المؤسسات وفي مقدمتها الجيش العراقى، وكان الجميع في العراق وخارجه يشاهد تلك المشاهد على قناة الجزيرة، ومنذ تلك اللحظة ونحن نعيش فى "عصر الصورة".
الى ان جاء توهج قناة "الجزيرة" في أحداث الربيع العبري، فوقت ما كانت جميع شبكات تليفون المحمول وخدمات الانترنت فى مصر متوقفة تماما اثناء جمعة الغضب 28 يناير/كانون الثاني 2011م كان د/محمد مرسى (الرئيس المعزول) يتحدث لقناة الجزيرة لحظة هروبة من سجن وادي النطرون في مصر!.
فكيف لمسجون لحظة هروبه يتحدث لقناة تليفزيونية ويملك هاتف الثريا ويتواصل فور هروبه من السجن مع قناة الجزيرة في بث مباشر! فهل كانت تلك الامور معدة مسبقا أذا؟
ومن بعدها أصبحت قناة الجزيرة هى نافذة التنظيم الدولى لجماعة الإخوان المسلمين على العالم، وهي من تسوق لهم فى الداخل والخارج.
وكانت التغطية لحظة بلحظة فى ربيع ليبيا الدامي حتى اصبحت قناة الجزيرة تسبق الاحداث وهي التى ترسمها وتمهد لها، فعلى طريقة سقوط تمثال صدام حسين اذاعة الجزيرة فيديو للثوار وهم يسيطرون على باب العزيزية وإعلان القبض على سيف الاسلام القذافي وهو المشهد الذي كان له فعل السحر فى مسار الربيع الليبى، الى أن خرج بعدها سيف الإسلام ليقول انه حي يرزق، ويسير فى باب العزيزية بكل أمان، قبل أن يعترف مطصفى عبد الجليل بأن تلك المشاهد كانت مفبركة لتحميس الثوار.
ثم عادت إلينا قناة الجزيرة بأحدث الحصريات وكانت تلك المرة في سورية، بعد أن أصبحت قناة الجزيرة من لها البث الحصرى لنقل جميع تحركات المليشيات والتنظيمات الإرهابية فى سورية، فمنذ اللحظات الأولى لدخول "مجاهدي" الناتو الى الحدود السورية ثم تدريبهم، ووقت صلاتهم وأكلهم وشربهم حتى لحظة مقتلهم، يتم نقل كل ذلك عبر شاشة الجزيرة حصريا على غرار مباريات الدورى الاسبانى، حتى أصبح عدنان العرعور وأمثالة هم نجوم "الدوري السوري الدموي".
وحقيقة الأمر قد يكون مصطلح "الأمن الإعلامى" غريب على أذهاننا، ولكن يكفينا أن نعلم ان إجمالى قنوات الإعلام العربى 783 منها 123 قناة مذهبية، و350 قناة منوعات، لكي نعرف حجم الفراغ العقلي لدى المواطن العربي الذي يمكن اختراقه بكل سهولة من خلال تلك القنوات الموجهة.
ومن يتأمل جيدا ما تقدمه قناة "الجزيرة" من محتوى على مجموعة قنواتها، ومن يقدمون ذلك المحتوى من إعلاميين، سيدرك معنى جملة خطيرة قالها أستاذ الإعلام الأميركى جورج فيدال: "ان الرأي العام مثل الأسماك التائهة فى المحيط نحن نعطيها الضوء وهي تأتي الينا"
ومن هنا استوحى شمعون بيريز فكرتة، وقال: "يجب أن ننشئ محطات تلفزيونية عربية تروج للتطبيع كما نريده نحن، محطات عربية ولكن تتكلم بلساننا."
.. وما كانت قناة "الجزيرة" القطرية إلا التطبيق الفعلي لفكرة شمعون بيريز.