أقلام الثبات
أطلق الرئيس التونسي مساء الأحد الماضي قرارته النارية وعلى رأسها تجميد البرلمان وإقالة الحكومة، وبالطبع ما حدث في تونس سيترك تداعيات هامة وخطيرة جدا على الجوار، لذلك حضر كل من وزراء خارجية المغرب والجزائر الى قصر قرطاج بعد 48 ساعة من قرارات الرئيس التونسي الجريئة والتي لم تكن لولا تأكد قيس سعيد من وجود دعم عربي ودولي له لضمان مساندته في المرحلة الحالية، ثم المرحلة الأخطر التي ستعقب الجولة الأولى في المعركة الطويلة بين تونس والإخوان.
ولتأثير تونس على الجارين المغرب والجزائر قدر كبير جدا، وتجلى ذلك على كل الدوائر السياسية والإستخباراتية في كلا الدولتين، خلال عملهم المتواصل لمراقبة حقيقة ما يحدث في تونس.
فبرغم كم الإختلافات الرهيبة بين المغرب والجزائر إلا أن الدولتين يشغلهم ما ستؤول له الأمور في ترمومتر شمال أفريقيا (تونس)، فالفوضى المسماة إعلاميا بـ"الربيع العربي"2011م انطلقت من تونس ومن ثم الى ليبيا واليمن الى ان نزلت بثقلها في سوريا ومصر، واليوم ثورة التصحيح تخرج من سورية ومصر لتصل تونس التي عاشت كذبة كبيرة لأكثر من عشرة أعوام أسمها "التجربة الديموقراطية" فأي ديموقراطية تلك التي تأتي بأناس لا يؤمنون بها من الأساس، وجعلوا من بلادهم محطة ترانزيت للمرتزقة القادمين من تركيا نحو ليبيا.
فما يحدث في تونس الأن هو إنعكاس لمسيرة صمود الجيش العربي السوري أمام مؤامرة كونية بكل ما تحمل الكلمة من معنى دبرت ضد دمشق منذ عهد وزير الخارجية الامريكي كولن بأول ومذكرة "شروط الإبقاء"، ولنجاح الجيش المصري في نسف كل مشاريع الإخوان في النصف الشرقي لشمال افريقيا من سيناء شرقا وحتى سرت- الجفرة غربا، ومن شرق المتوسط شمالا وحتى الخرطوم جنوبا.
وان كان ذلك هو الوضع في المغرب العربي جراء الزلزال الذي أحدثه الرئيس قيس سعيد، فكانت الأثارة أكثر في مواقف دول الإتحاد الأوروبي، حيث التناقض كان حاضرا بين قاطرة أوروبا السياسية فرنسا، وقاطرة أوروبا الاقتصادية المانيا، فكانت الحقيقة في الكواليس وعلى أرض الواقع مختلفة تماما عن البيانات الرسمية لكل دولة.
فبرعم أن بيان وزارة الخارجية الالمانية جاء داعما بوضوح لمواقف قيس سعيد، إلا ان المانيا أمام معضلة كبيرة جراء ما حدث لإخوان تونس، فبرلين وعلى مدار العشرة أعوام الماضية كانت داعمة بكل قوة لسلطة الإخوان في تونس وليبيا، وكان لها مشاريع وتعاون عسكري مع تكفيريي ليبيا على الأراضي التونسية، وكانت المانيا أولى محطات الإخوان في أوروبا وربما قبل عاصمة الضباب لندن نفسها بعد سقوط حكمهم في مصر عقب ثورة 30يونيو 2013م
أما فرنسا التي جاء بيانها رمادياً بعض الشئ، فهي على علم بأدق تفاصيل ما يحدث في تونس، وكل ما دار في الأيام القليلة الماضية في قرطاج جاء بمباركة فرنسية، كحال ما جرى في تشاد خلال تصفية رئيسها الأسبق إدريس ديبي وكذلك ما حدث في مالي والنيجر مؤخرا، وهو ما يؤكد مدى قوة الحضور الفرنسي في أفريقيا حتى الآن خصوصاً في دول المغرب العربي والساحل والصحراء.
أما من لها التأثير الأكبر على كل من مواقف واشنطن وقطيع الخراف الأبيض التابع لها المسمى بـ"الإتحاد الأوروبي" هي بريطانيا، والتي تلعب الأن دورين:
الأول: هو ضابط الاتصال بين قصر قرطاج والغنوشي، والأخير معروف علاقته ببريطانيا، التي أقام بها فترة طويلة حين كان فاراً من تونس.
والثاني: ممارسة ضغوط شديدة على الأطراف الأوروبية والولايات المتحدة لعدم تبني موقف إيجابي لقرارات قيس سعيد، والإكتفاء بمسك العصا من المنتصف على اقل تقدير، فأكثر ما يهم بريطانيا الأن هو عدم تعرض "إخوان" تونس لما تعرض له نظرائهم في مصر، وضمان بقاء شوكتهم كفصيل سياسي في التركيبة التونسية.
وحقيقة الأمر لن يهدم مخططات "الإسلام الأطلسي" إلا هدف ثاني سريعا من قيس سعيد، وهو يستطيع بعد أن كسر القيود التي كان مكبلا بها، ولا ننسى أنه رجل خارج المنظومة السياسية التي حكمت البلاد منذ الاستقلال من فرنسا 1956م، ولا يرتبط بأي من لوبيات السلطة بالأنظمة السابقة، لذلك بعد ان صبر كثيرا ووصل الشارع التونسي الى مرحلة الغليان، تحرك قيس سعيد في التوقيت المناسب، بعد أن أضاع الغنوشي كل الفرص التي أتيحت له في الوقت بدل الضائع.
أخيراً وليس آخراً الرئيس التونسي قيس سعيد لم يكن ضعيفاً أو مترددا وتحمل الكثير والكثير طوال الفترة الماضية، ولكنه كان مكبلاً بمجموعة من القوانين والأجهزة والتنظيمات السياسية والاقتصادية الفاسدة التي أحكمت قبضتها على البلاد تماما منذ سبعة أعوام على الأقل.
واليوم قيس سعيد أعلن الحرب على الجميع سواء لوبي "الإخوان" أو لوبي المال الفاسد، بعد أن نسفت تونس أكبر كذبة في تاريخها وهي كذبة "ثورة الياسمين" و"الربيع العربي" وكل ما جرى خلال الأيام القليلة الماضية هي جولة أولى في صراع طويل بدأ بين الطرفين، وبكل تأكيد ستكون الجولات القادمة أكثر شراسة، بعد أن دخلت تركيا وقطر على الخط بشكل مباشر إلى جانب "إخوان تونس".