أقلام الثبات
دور الإستخبارات التركية في "الشرق الأوسط الجديد"!
بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وما شهدته بلاد الرافدين من إستنزاف، انتقلت واشنطن من حربها على القيادة العراقية الى القيادة السورية فأصدرت مصطلحات وخرائط جديدة على غرار ما حدث بسايكس بيكو الأولى عام 1916 كمصطلح "الشرق الاوسط الجديد"، الذي جاء هذه المرة بأسم ثورات "الربيع العربي" وهنا بدأت أبرز أجهزة الأستخبارات الأقليمية كالموساد الأسرائيلي والميتMIT التركي فى الظهور على مسرح الأحداث ومحاولة اثبات قدرتهم للقوى العظمى أولا، ثم للدول العربية المتصارع عليها والتى أصبحت مطمع وهدف لجميع المتربصين بالمنطقة ثانيا، ومن ثم تصوير كل جهاز إستخبارت منهم على أنه الأجدر في إدارة ملفات المنطقة، وتسيير الأمور بها وملء الفراغ الذي يحدث فى الإقليم بعد سقوط العديد من الدول فى بؤرة الفوضى وزوال الكثير من الأنظمة السياسية فيها.
وهنا جاءت الفرصة سانحة لوكالة الإستخبارات التركية (MIT) كي تظهر دور البطولة على خشبة مسرح أحداث الشرق الأوسط الجديد، وسريعا دخلت الأستخبارات التركية على خطوط الأحداث الساخنة بالمنطقة وصارت تحرك ذراعاً هنا أو مشروعاً هناك، وتعد معسكرات "للجهاديين" القادمين من كل أرجاء المسكونة لإرسالهم الى سورية، وفتح خطوط مباشرة مع تنظيمات جماعة "الإخوان المسلمين" فى الدول التى كويت بنار الفوضى كمصر عبر دعمها للجماعة الأم لتنظيم الإخوان، ثم حزب النهضة بتونس، وجماعة فجر ليبيا والذين دعمتهم بالعديد من الجهاديين والسلاح، قبل أن يتواصل جهاز الإستخبارات التركية مع العديد من عناصر بالخليج العربي والتأكيد على دور حكومة حزب "العدالة والتنمية" بالمغرب بقيادة عبد الاله بنكيران، فباتت تصريحات أردوغان فى الشأن الدأخلى للدول العربية أكثر من تصريحاته فى شأن بلاده نفسها، وبات ظهور مدير الإستخبارات التركية هاكان فيدان عادي جداً في الصحف والجرائد والكاميرات التركية بل والعربية والعالمية.
الرئيس الجديد لوكالة الإستخبارات (MIT) هاكان فيدان رغم أنه كان صف ضابط سابق إلا أنه عين بصفته مسؤولاً مدنياً، وليس مسؤولا من الجيش في خطوة زادت من الفجوة بين قيادات الجيش ذي الميول الأتاتوركية الذين كانو يحكمون قبضتهم على أهم معاقل الدولة التركية.
وأكد الرجل الثاني الذي أعتلي منصب رئاسة الإستخبارات التركية من خارج المؤسسة العسكرية بعد المستشار تبتان جوسال الذي عُيّن من خارج المؤسسة عام 1992م كما ذكرنا فى المقالة السابقة، نجاحه لنظرائه بالإستخبارت المركزية الأميركية، بتنفيذ مخططهم الجديد في المنطقة العربية على أكمل وجه، فبات يرجح كفة الإرهابيين والمرتزقة الذين أشرف بنفسه على إعدادهم بمعسكرات الجهاديين بشرق تركيا، وفي الرقة بسوريا ومصراتة بليبيا وشبه جزيرة سيناء المصرية.
حقبة جديدة بهيكل الإستخبارات التركية
مع تولي هاكان فيدان لمنصب رئيس وكالة (MIT) كان شغل أردوغان الشاغل هو وضع يده على أكثر البؤر التى كانت تقلق نظام "العثمانيين الجدد" وكان يخرج منها على مدار تاريخ الدولة التركية الحديثة كل حمم الإنقلابات ألا وهي الإستخبارات العسكرية.
بداية الضرب بقوة من هاكان فيدان كان على رأس الإستخبارات العسكرية في أول عام 2012، بعد أن قام بوضع العديد من الجنرالات والقيادات العسكرية البارزة بالإستخبارات والجيش فى السجون بتهمة التخطيط للإطاحة بحكومة حزب "العدالة والتنمية"، أو بتهمة الإنضمام لتنظيمات تهدف لقلب نظام الحكم.
وبالتوازي كان هاكان فيدان يعمل على تطوير شكل المؤسسة الإستخباراتية بالداخل والتي استمرت لأعوام على نهج وخط واحد، وعلى غرار هيكلة وكالة الإستخبارات المركزية الأميركية أعاد هاكان فيدان هيكلة جهاز الإستخبارات التركي وأستحداث ستة أقسام جديدة في الجهاز وهي: 1-قسم مكافة التجسس، 2- قسم التحليل الأستراتيجي، 3- قسم الإستخبارات الدفاعية، 4- قسم إستخبارات العمليات الخارجية، 5- قسم إستخبارات الأشارة، 6- قسم إستخبارات التقنية والألكترونية.
وجاءت تلك الخطوة بعد أن سحب هاكان فيدان العديد من ملفات الجيش وضمها إلى جهاز المخابرات ووضعها تحت عينيه، ثم وضع كل أجهزة المخابرات فى الجيش والخارجية والأمن الداخلى تحت مظلة وكالة الإستخبارات الوطنية "MIT"، وهو الأمرالذي أزعج العديد من قيادات الجيش وقتها، خصوصاً الجنرالات المحسوبون على التيار الكمالي (نسبة لمؤسس الجمهورية العلمانية كمال أتاتورك).
صندوق أسرار أردوغان
وأدق وصف لتلك المرحلة جاء على لسان رجب طيب أردوغان نفسه، حين صرح بأن "هاكان فيدان هو صندوق أسرارى وحافظ اسرار الدولة التركية"، قبل أن يأتى أول صدام أو أختلاف بين أردوغان وهاكان فيدان، يوم أن تقدم الأخير بأستقالته من منصب مدير الإستخبارات التركية وإعلان عزمه الترشح للأنتخابات البرلمانية، حينها كان منصب رئيس البرلمان التركي بعد رحيل جميل جيجك هو الهدف المستقبلى لطموح هاكان فيدان الشخصي، قبل أن يتضاعف طموح فيدان تجاه رئاسة البرلمان بعد تصريح المرشحة لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية هيلاري كلينتون التى قالت عن فيدان أنها ترى فيه "رجل الشرق الأوسط الجديد".
وبعد تنحي داوود أوغلو عن المشهد السياسي بأيام قليلة أصدرت عشرات المصادر واللجان الالكترونية إشاعات لا أول لها من أخر تدعي إنسحاب مدير الإستخبارات التركية هاكان فيدان ومستشار وزارة الخارجية فريدون سينيرلي اوغلو من الحكومة التركية، حتى أضطر متحدثون من قصر يلدز ومن الحكومة التركية الجديدة وقتها بقيادة بن علي يلدرم أن يخرجوا للأعلام لتكذيب تلك التصريحات التى ألقت بظلالها على الرأي العام التركي وتركت أثرا سلبيا، ومخاوف شديدة لدى البعض وفى مقدمتهم رجال الأعمال ورؤوس الأموال وأصحاب الأستثمارات بتركيا، الى أن جاءت ليلة منتصف تموز 2016 ومحاولة الإنقلاب الفاشلة بتركيا كي يبزغ نجم هاكان فيدان أكثر وأكثر، وكي يؤكد للجميع بما فيهم أردوغان نفسه (الذي أنتقد فيدان بعد محاولة الإنقلاب) بأنه الأقوى بين الأجهزة الأمنية التركية كلها.
إستخبارات حديثة فى ظل تركيا جديدة
هناك مشاهد عديدة في الأعوام الأخيرة كانت تنذر بحدوث تغيرات جذرية في شكل وهيكلة المؤسسات الحساسة بالدولة التركية، وفي مقدمة تلك المشاهد تغيير النظام بتركيا من برلماني الى رئاسي، وسيطرة الرئيس على كل السلطات تقريبا في الدولة، وتعدد وجوه المعارضة التركية، بالتزامن مع تأسيس حلفاء أردوغان بالأمس، لأحزاب سياسية معارضة له، وفي مقدمهم فيلسوف "العثمانيون الجدد" أحمد داوود أوغلو، الذى تم تنحيته عن المشهد السياسي بسبب خلافات بين أوغلو و أردوغان، كانت بدايتها وقت ترشح فيدان للبرلمان بعد أن قدم إستقالته من رئاسة الإستخبارات التركية، ثم بعد أن أمتدحت المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل داوود أوغلو الذى وصفته أغلب صحف أوروبا بأنه "رجل أوروبا المفضل" فى الوقت الذى أنهالت فيه صحف برلين بالهجوم الشرس على أردوغان، وقبل ذلك كان لمشهد ذهاب داوود أوغلو لبيت الله الحرام بمكة وما تلقاه من تحية وحفاوة بالغة وأستقبال الفاتحين من قبل المعتمرين الترك، الذين هتفوا له بالحرم المكي، إضافة إلى العديد من المشاهد التى أثارت إستياء أردوغان وجعلته يرى فى أستمرار أوغلو خطرا عليه.
كل تلك المشاهد وأكثر كانت تؤكد على أن تركيا تتغير من الداخل بنسبة 180 درجة، وتنذر أيضا بأن تلك التغيرات سيكون لها مردود كبير على دور ومهام جهاز الإستخبارات التركي، فى ظل خروج أصوات العديد من المفكريين والسياسيين بتركيا للمطالبة بوكالة إستخبارات بفكر وهيكل جديدين للتعامل مع التحديات المستقبلية التى تواجه الدولة التركية فى ظل ما يقع عليها من حصار خارجي، بعد ما تسببته سياسة تركية الخارجية المندفعة تارة والعدوانية طوراً فى خسارة العديد من جيرانها والقوى الدولية والدول الصديقة لها اقتصاديا، كذلك حجم التداخل التركي فى ملفات الأقليم المشتعلة حيث باتت بعض تلك الملفات تمثل عبئاً عليها، إلى جانب الرغبة الدائمة لدى القيادة التركية التى تقود الحكم منذ عام2003م فى لعب دور أساسي ومحوري بمنطقة الشرق الأوسط ووسط أسيا أو ما يعرف بالقوقاز وكذلك بقارة أفريقيا.
كل ذلك دفع العديد من وكلاء جهاز الإستخبارات التركي بالتقدم بمشروع سمي "وكالة إستخبارات جديدة لتركيا جديدة"، وهو المشروع الذي يأتي فى ظل خريطة الشرق الأوسط الجديدة التى بدأت تتغير ملامحها وحدودها الجغرافية والسياسية والجيوسياسية بعد الغزو الأميركي للعراق 2003.
لقد سعى رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم جاهدا في بداية عام2018م لتطبيق سياسة "صفر مشاكل"، بعد أن وصلت العلاقات بين تركيا في سياستها وعلاقاتها مع كل دول الجوار والمنطقة الى مرحلة الإنسداد، ولكن رغبة أردوغان في زيادة تدخله السافر في شؤون تلك الدول، جعل خطة يلدرم تفشل فشلا ذريعا، الى ان اضطر النظام التركي لفتح أبواب اتصال جديدة مع دول عديدة في المنطقة في نهاية عام 2020م، بعد أن باتت تركيا على بعد خطوة واحدة من الحرب مع تلك الدول، وفي مقدمتها مصر في الملف الليبي، واليونان في ملف جزر بحر إيجة المتنازع عليها والتنقيب بشرق البحر المتوسط والمياة الإقليمية القبرصية، وهنا أخذ جهاز المخابرات التركية على عاتقه فتح قنوات إتصال جديدة مع مصر واليونان وكذلك السعودية والإمارات وفرنسا، حيث استغل رئيس المخابرات التركية هاكان فيدان، سحب الرئيس التركي ثقل بلاده من مشروع الشرق الأوسط الجديد على حساب المنطقة العربية، لتنفيذ مخطط تمكين الإسلام الاطلسي بها، لصالح المشروع الطوراني على حساب روسيا الإتحادية في البحر الاسود ودول البلقان والمنطقة الأوراسية، فكانت المخابرات التركية هي اللاعب الرئيسي ومهندس العلاقات الجديدة بين النظام التركي ودول مصر واليونان وفرنسا والسعودية، وهو ينبئ بمرحلة جديدة سيقبل عليها النظام التركي في الفترة المقبلة، ودور جديد في غاية الأهمية لجهاز المخابرات التركي، وعلى أساسه سيتحدد شكل السياسة الخارجية للدولة التركية، كذلك زيادة الربط والتنسيق بين وزارة الخارجية التركية وجهاز المخابرات بالفترة الحالية لتعويض وما سببته مؤسسة الرئاسة من أزمات خارجية.
وتلك التحركات الأخيرة التي قامت بها المخابرات نيابة عن وزارة الخارجية والرئاسة التركية معا تؤكد ان مشروع "وكالة إستخبارات جديدة لتركيا جديدة" بات إطار التنفيذ.