أقلام الثبات
كلما إزدادت معاناة اللبنانيين، كلما تكشف لهم عمق ما ترتكبه بحقهم منظومة الفساد المتحكمة برقابهم، التي تواصل كشف عوراتها، مع إشتداد الأزمة المالية والإقتصادية القائمة، التي ترفع من وتيرة ضغوطات اللبنانيين طلباً للحل. فما بين راسم لخط أحمر لحماية رأس منظومة المصارف، إلى محذر من وقوع الكوارث إذا جرى المس بفاسد أو مفسد يشكل مفتاحاً لأسرار الحاكمين، إلى حام لمسوؤل متهم بالسرقة، أو لوزير متهم بالإهمال، تقوم مرجعيات المنظومة بحماية رموزها وأفرادها، من دون خوف أو خجل.
لكن الأخطر في هذه الجرائم الموصوفة، التي يرتكبها تحالف التسلط، المكون من زعماء الطوائف وأصحاب المصارف وكبار الأثرياء؛ أنها تشكل خطراً على حياة اللبنانيين ومستقبل أبنائهم. وكذلك تشكل حواجز تمنع أي تغيير أو تطوير للنظام القائم، بحجة المحاصصة وحقوق الطوائف حيناً؛ وخضوعاً لرهانات يزينها الخارج لمرجعيات الطوائف، فيجعل منها خادماً أميناً لمصالحه وأوامره وحساباته.
كان أحد قادة نظام 1943 يصف النظام اللبناني بأنه "مركنتيلي"، أي أنه باختصار، نظام تجاري قائم على حمايات واحتكارات تتعارض مع مبدأ حرية التجارة وقاعدة التنافس، على قاعدة "الغاية تبرر الواسطة". ويبدو أن إتفاق الطائف لم يغير من طبيعة النظام اللبناني ولا من طبيعة رموزه والحاكمين بإسمه والضاربين بسيفه. بل لعله عمقها أكثر.
فما جرى من إستيلاء على أموال اللبنانيين في المصارف، وتهريب أصحاب الثروات غير المشروعة أموالهم إلى الخارج، لم يقتصر على أموال المودعين اللبنانيين؛ ولا على الأموال التي نهبها أصحاب الصفقات والنفوذ من الخزينة اللبنانية، بل شملت عشرات مليارات الدولارات لمودعين سوريين في المصارف اللبنانية ومثلها لمودعين من جنسيات عربية أخرى. والمسكوت عنه هو هذا التقاطع والتلاقي، بين أهداف واضع العقوبات الأميركية بحق سورية ولبنان؛ وبين مصالح الفاسدين في لبنان، من خلال التكامل بين أعمال وتصرفات الطرفين.
هذا التصرف والتواطوء، لم يكن، كما يعرف اللبنانيون، نتيجة الجشع والتسلط والإستقواء بمؤسسات وأجهزة الدولة اللبنانية، من قبل القائمين عليها فحسب، بل كان خضوعاً لقرار خارجي إستعماري، يمثل "قانون قيصر" الأميركي عنواناً له، لحصار سورية ومنعها من إعادة إعمار ما دمر بفعل الحرب الكونية عليها. إضافة إلى ما يماثل ذلك القانون من إجراءات أميركية تستهدف لبنان واللبنانيين، للضغط على المقاومة وحصارها وإضعافها.
ولا يختلف اللبنانيون على هدف تلك الضغوطات الأميركية، فهي لإجبارهم على التخلي للأميركي وقاعدته العسكرية المتقدمة "إسرائيل"، عن النفط والغاز الموجود في المياه اللبنانية. وكذلك للقبول بترسيم الحدود مع فلسطين المحتلة، وفق ما يعرف بخط الموفد الأميركي السفير فريدريك هوف، الذي سبق وقام بوساطة بين لبنان والكيان "الإسرائيلي" حول هذا الترسيم. كما أن تلك الضغوط، تسعى لتفرض على اللبنانيين القبول بتوطين اللاجئين الفلطسينيين في لبنان ودمج النازحين السوريين في اماكن نزوحهم، بما يحل القضية الفلسطينية وفق المصلحة "الإسرائيلية"؛ ويحل جزءاً من أزمة السوريين الذين ضللوا وحرضوا ضد دولتهم ولجأوا إلى لبنان. وهذين الحلين هما في كل الأحوال على حساب لبنان.
كما أن ما جرى خلال العقود الماضية بتنفيذ سياسة مقصودة لإفقار لبنان واللبنانيين؛ وتوريطهم بديون فوق طاقتهم؛ وتماهي سياسيين وقيادات لبنانية مع تلك الضغوط والأهداف، يجعل منها عميلة للأميركي ومنفذة لمخططاته.
والجدير بالتذكير، أن الساسة اللبنانيين وكبار الأثرياء تعودوا على إيداع أموالهم في المصارف الأوروبية والسويسرية تحديداً، لما تؤمنه لهم من سرية مصرفية. لكن جرى ترغيب أصحاب الثروات بجلبها إلى مصارف لبنان، عن طريق رفع فائدة سندات الخزينة لتصل إلى حدود 42 في المائة. علماً أن أصحاب تلك القرارات من الحكام والسياسيين، هم من أصحاب الثروات ومالكين ومساهمين في مصارف. فضربوا بقراراتهم تلك عصافير عدة بحجر واحد. أولها نهب الخزينة اللبنانية وإفلاسها بتوريطها في دفع تلك الفوائد الخيالية. واستدراج الأموال لتشكل سيولة في أيدي المصارف تشتري فيها سندات الخزينة بتلك الفوائد فتحقق منها أرباحاً هائلة. ومن ثم جاء الإستيلاء على أموال من لم تشمله نعمة الحكم والنفوذ، ليكون العصفور الثمين في ايدي أصحاب المصارف وشركائهم من المتزعمين والنافذين.
فهل بات من حق اللبنانيين وصف المتورطين بافقارهم وتجويعهم، بأنهم ليسوا فقط لصوصاً إختلسوا أموالهم، بل هم كذلك جواسيس يعملون لصالح الخارج الأميركي ومن يدور في فلكه من قوى ودول، في مقدمها العدو الصهيوني، مما يستلزم الإدعاء عليهم ومحاكمتهم على ما إقترفته أياديهم.