أقلام الثبات
سجل تحالف أهل السلطة في لبنان لنفسه نجاحاً منقطع النظير، في مناوراته الميدانية لشد عصب جماهيره لغايتين: الأولى، صرف أنظارها عن كابوس الكارثة الإجتماعية التي تعيشها، نتيجة الأزمة الإقتصادية والمالية التي أوقعتها بها سياسات هذا التحالف وسوء إدارته للشأنين المالي والإقتصادي في البلاد. والثانية، شد عصب هذه الجماهير، إستباقاً وإستعداداً للإنتخابات النيابية التي ستستحق بعد سنة من أيامنا هذه.
ونجاح هذا التحالف السلطوي، المكون من زعماء الطوائف وكبار رجال الأعمال والأثرياء وأصحاب المصارف، يعني في وجهه الآخر، تسجيل صفحة جديدة للشعب اللبناني، تذخر بصنوف المذلة والمسكنة والخنوع، أمام ألاعيب هؤلاء المتحكمين، الذين يتشاتمون ويتصارعون عندما تقتضي مصالحهم ضبط هذا الجمهور، الذي تحركه المشاعر الطائفية، أكثر مما يوثر فيه خداعه وسرقة أمواله وتجويعه من قبل زعمائه أنفسهم، خصوصاً أن هؤلاء الزعماء وعند لزوم مصالحهم، يتوافقون بسحر ساحر وبقدرة قادر ويتضامنون، مثلما جرى أمس الخميس، في إصطفافهم لتنفيذ إضراب عام، أقل ما يقال فيه أنه إضراب في وجه الشعب اللبناني من قبل الذين أجرموا بحقه، في تكرار لما جرى منذ 17 تشرين 2019، عندما إنتزع قطّاع الطرق من ميليشيات وزعران أحزاب السلطة الشارع من أيدي الشعب، الذي هرع للتظاهر ضد فساد حكومة سعد الحريري. وبدلآً من أن تكون التظاهرات لمحاسبة الحريري وحكومته التي كانت تضم كل القوى السياسية، حولتها أحزاب السلطة إلى مطالبة بإعادة الحريري ذاته، على رأس حكومة يكون فيها الحاكم بأمره من دون منازع، مما أدى إلى إحباط الجمهور اللبناني وأكثريته الصامتة تحديداً. وهذا رايناه أمس في مشاركة الناس الهزيلة في وقفة وتحرك الإتحاد العمالي العام، الذي تبين أنه يحتج ويلقي الخطب ضد شبح "راجح"، لأن تحرك الإتحاد كان، حسب قول رئيسه، بمشاركة الموالاة والمعارضة، مما يطرح السؤال عمن يجوع الناس ويستولي على أموالها؛ ويحمي المصارف وحاكم المصرف المركزي من الحساب والعقاب القانوني، غير ذلك التحالف الشرير الذي تتولى إحتكاراته رفع أسعار السلع وإخفائها من الأسواق؛ وتمارس الإذلال بحق اللبنانيين يومياً، في طوابير طلب المحروقات أمام المحطات؛ وفي البحث العقيم من صيدلية إلى أخرى خلف علبة دواء لا يعيش المريض من دونها، أو في تسول علبة حليب يصرخ الرضيع من جوعه إليها. وحدث ولا حرج في مشهدية المتسوقين في الإستهلاكيات، الذين يدورون في متاهة البحث عن سلع غذائية يلائم سعرها ما يحملون من مال. وكثيراً ما يخرج بعضهم بخفي حنين.
ما جرى ويجري من قبل المتسلطين على مصير اللبنانيين، هو هروب وتغطية لسماوات فشلهم بقباوات أطماعهم وصراعهم على المحاصصة والمناصب والصفقات، التي تزكم روائحها الأنوف، فالحقيقة أن هؤلاء يواجهون أفقاً مسدوداً في محاولتهم الخروج من الأزمة التي أوقعوا البلاد فيها. وأن تشكيل الحكومة برئاسة الحريري أو غيره لن يحل المشكلة، ما لم يستند إلى أحد توجهين: الأول: الحصول على قرار خارجي كبير بدعم لبنان وإخراجه من أزمته المالية؛ وهذا غير متوفر حالياً، لأن بدايته تكون بفك الحصار المفروض عليه من أميركا وأتباعها. والثاني: إتخاذ قرار داخلي جريء بالإتكال على الذات والتخلي عن نظام الإقتصاد الريعي القائم، لصالح نظام إقتصادي حقيقي قائم على الإنتاج، يفتح أبواب التعاون مع كل من لديه الإستعداد لمساعدة لبنان، بما فيه دول الشرق وعلى رأسها روسيا وإيران والصين، مروراً بسورية والعراق. ومثل هذين التوجهين فوق طاقة أهل الفساد والتبعية المرتهنين للخارج في الدولة العميقة اللبنانية. لذلك يلجأون إلى إلهاء اللبنانيين بصراعات المحاصصة القائمة على التحريض الطائفي وخلق أجواء حروب أهلية.
ويعلم طرفا تمثيلية التصارع على الصلاحيات، أنها ممرهم الإجباري للبقاء في مناصبهم وللإمساك بجمهورهم، فمن جهة التيار العوني ومن يمثل، يدرك الجميع أن من غير الممكن إعادة الزمن إلى الوراء، حيث كانت الحكومة ورئيسها مجرد معاونين لرئيس الجمهورية، بما يتيح للرئيس الراحل سليمان فرنجية، على سبيل التذكير، أن يرمي في سلة المهملات عريضة من الأكثرية النيابية تطالبه فيها باعادة 110 أساتذة رسميين إلى وظائفهم، بعد طردهم منها إثر تحركهم المطلبي لتحسين ظروفهم الحياتية. أو في تكليفه شخصيات لا وزن لها تشكيل حكومات فشلت أو لم تر النور.
وعلى الجهة الأخرى، يعلم سعد الحريري صعوبة، بل وإستحالة تكرار ما فعله فؤاد السنيورة عام 2007 بتجاهله غياب مكون كامل عن الحكومة، حيث إستمر بحكومته "البتراء" غير عابىء بلا دستوريتها ولا ميثاقيتها ولا بالتحركات الشعبية التي واجهتها.
هذا الأفق المسدود أمام المنظومة الحاكمة، في فشلها بإيجاد حلول للأزمات التي صنعتها أياديها، يدفعها لتغطية السموات بالقبوات وإفتعال صراعات إلهائية وغرائزية عصبوية، تلعب فيها في الوقت الضائع؛ وتستهلك طاقات وردود فعل اللبنانيين، الذين يجذبهم حديث الصلاحيات ومحاصصات الزعماء والرؤساء، فيما إعتراف السياسيين بالفشل يعني خسارتهم المواقع والمناصب والمكاسب؛ ودعوة للبنانيين لمواجهة ومحاسبة الذين سرقوهم وأفقروهم وجعلوا الجوع يدخل إلى بيوتهم.