تسوية المصيف السعودي التي لم تر النور فصارت الأزمة أزمات
أقلام الثبات
ثمة أسئلة كثيرة يطرحها اللبنانيون، كلما سمعوا عن حوار مزمع، أو التحضير لحوار، ومن هذه الأسئلة:
ماذا يمكن أن ينتج، وماذا ينتظرنا بعده وهل نحن أمام هدوء واستقرار أم أمام مرحلة جديدة من مخاض صعب لا يعرف متى ينتهي؟
واللبنانييون كما كانت حواراتهم تنتج أحياناً أزمات أو مدخلاً لأزمات كبرى، وحروب، كانت أيضاً مدخلاً لحلول، وفي كل الحالات، فإن التشديد والعمل من أجل الحوار له معنى واحد أن هناك أزمة ولابد من حل لها.
بدأ عهد الطائف بآمال واعدة للبنانيين، بسلم أهلي عميق، ناتج عن تسوية قابلة للتطوير، لكن ما أن انتهى العام 1995 حتى بدأ يتكشف أن لبنان يتجه بسرعة نحو سلسلة من المآزق الاقتصادية والسياسية وتكشف في الممارسة العملية سلسلة من الحقائق أن ما ينفذ لا علاقة له من قريب أو بعيد بما توافق عليه النواب اللبنانيون في المصيف السعودي بغطاء عربي وتسهيل دولي.
فإقتصادياً وإنمائياً وعمرانياً أكدت وثيقة الوفاق الوطني على:
- الانماء المتوازن ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ركن أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام.
- العمل على تحقيق عدالة اجتماعية شاملة من خلال الاصلاح المالي والاقتصادي والاجتماعي.
ومن ضمن الاصلاحات على المستوى الانمائي تضمنت وثيقة الوفاق الوطني:
- توسيع صلاحيات المحافظين والقائمقامين وتمثيل جميع إدارات الدولة في المناطق الادارية على أعلى مستوى تسهيلاً لخدمة المواطنين وتلبية لحاجاتهم المحلية.
- إعادة النظر في التقسيم الإداري بما يؤمن الانصهار الوطني وضمن الحفاظ على العيش المشترك ووحدة الأرض والشعب والمؤسسات.
- اعتماد اللامركزية الادارية الموسعة على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى عن طريق انتخاب مجلس لكل قضاء يرأسه القائمقام، تأميناً للمشاركة المحلية.
- اعتماد خطة إنمائية موحدة وشاملة للبلاد قادرة على تطوير المناطق اللبناينة وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً وتعزيز موارد البلديات والبلديات الموحدة والاتحادات البلدية بالامكانات المالية اللازمة.
- إنشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي للتنمية: ينشأ مجلس اقتصادي اجتماعي تأميناً لمشاركة ممثلي مختلف القطاعات في صوغ السياسة الاقتصادية والاجتماعية للدولة وذلك عن طريق تقديم المشورى والاقتراحات.
أما على مستوى الاصلاح السياسي فقد تم اتخاذ جملة قرارات أبرزها:
- إنشاء مجلس دستوري لتفسير الدستور ومراقبة دستورية القوانين وبت النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية.
- اجراء الانتخابات النيابية وفقاً لقانون انتخاب جديد على أساس المحافظة يراعي القواعد التي تضمن العيش المشترك بين اللبنانيين وتؤمن صحة التمثيل السياسي لشتى فئات الشعب وأجياله وفاعلية ذلك التمثيل بعد إعادة النظر في التقسيم الإداري في إطار وحدة الأرض والشعب والمؤسسات.
- إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفقاً لخطة مرحلية، وعلى مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحين اتخاذ الاجراءات الملائمة لتحقيق هذه الهدف وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية تضم إضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية، ومهمة الهيئة درس واقترح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية وغيرها من الاصلاحات على مستوى المؤسسات والقضاء، فماذا تحقق من هذه الاصلاحات؟
على المستوى الاقتصادي والاجتماعي لم تلحظ الموازنات العامة للدولة منذ العام 1992 أي اهتمام بالمناطق فيما شهد القطاع الزراعي تدهوراً مريعاً جعل الهجرة الداخلية من الريف إلى المدينة تزداد اتساعات مما فاقم من أحزمة البؤس حول المدن الكبرى، وخصوصاً العاصمة وامتدت هذه الاحزمة إلى قلب المدن نفسها.
أما على مستوى الاصلاح المالي والاقتصادي والاجتماعي فقد سيطرت على البلاد كتلة من الأفكار الاقتصادية الجامدة وهي التوسع في المشاريع الانشائية العملاقة والتركيز على التسوق دون أي اهتمام بالقطاعات الانتاجية كالصناعة والزراعة مع اعتماد أساليب الخصخصة واقتصاد السوق، مما راكم وفاقم المديونية العامة وزاد في عجز الخزينة، بحيث ما أن أطل العام 1995 حتى بدأت الأزمة الاقتصادية ترمي بثقلها على لبنان واللبنانيين، وبدأت ترتفع الأصوات بالدعوات إلى مؤتمرات وطنية وحوارات من أجل معالجة الأزمة، فيما الحكومات المتعاقبة أخذت تعالج المرض الذي بدأ يتحول إلى عضال بحبات الاسبرين.
وعلى هذا النحو لم يعد هناك أي اهتمام بمتابعة ما اتفق عليه في الطائف، فلم يوضع قانون لتطبيق اللامركزية الادارية ولم يجر الاهتمام بتطوير الادارات المحلية والبلديات، رغم إجراء الانتخابات البلدية عام 1998 بعد انقطاع دام 35 عاماً، لا بل أن الحقوق المكتسبة للبلديات من الصندوق البلدي المستقل لم تعد تدفع في مواعيدها، وصارت تتراكم دون أن يعرف مصيرها ورقمها.. مما نسف ما أقره اتفاق الطائف من أساسه باعتماد خطة إنمائية موحدة شاملة للبلاد قادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً وتعزيز موارد الإدارات المحلية والبلديات بالامكانيات اللازمة.
في نفس الوقت جرى فيه تفريغ المجلس الاقتصادي والاجتماعي من محتواه وإلغاء دوره بحيث أن المجلس بعد أن شكل في عهد حكومة الرئيس سليم الحص قام بسلسلة من الدراسات الاجتماعية والاقتصادية ولم يؤخذ بها، وقد انتهت ولايته ولم يجر التجديد لأعضائه ولا تعيين بديل عنهم، وبالتالي فقد ألغت الحكومات المتعاقبة مهمته ودوره دن أن تعلن ذلك... وفيما كان التركيز على تعزيز ما يسمى الحرية الاقتصادية عبر اقتصاد السوق وتعزيز اقتصاديات التسوق، نشأت كتل اقتصادية أثرت سلباً على قدرة المستهلك علماً أن عواصم ومدن عربية كدبي مثلاً سبقت لبنان بملايين الأشواط في هذا المجال.
أما على المستوى السياسي فثمة سلسلة ملاحظات أهمها أن اتفاق الطائف قد أقر المشاركة في عملية التنمية السياسية والاقتصادية لكن ذلك لم يتم مطلقاً.
أولاً: لم يتم تطبيق أي من المؤسسات الدستورية أو الشرعية التي تلحظ المشاركة، فالمجلس الاقتصادي والاجتماعي تم تجميده بما يقترب من الغائه.
ثانياً: لم يتم التطرق من قريب أو بعيد إلى انتخاب مجالس الاقضية تأميناً للمشاركة المحلية.
ثالثاً: جمد دور البلديات التنموي على المستوى المحلي، فلم يتم تطوير قانون البلديات كما حرمت البلديات من حقوقها ومستحقاتها المالية، المتوجبة قانوناً على الدولة مما جعل العمل البلدي ملحقاً سياسياً عديم الجدوى والمبادرة في ظل تقاسم وتحاصص سياسي وطائفي لم ير لبنان مثيلاً له منذ تكوينه عام 1920.
رابعاً: لم ينجز منذ الانتخابات الأولى عام 1992 بعد اتفاق الطائف قانون الانتخاب الذي لحظه اتفاق الطائف بإجراء انتخابات نيابية تؤمن صحة التمثيل السياسي لشتى فئات الشعب وأجياله وفاعلية التمثيل، حيث شهدت البلاد ستة انتخابات نيابية وفق أربعة قوانين انتخابية، لم يراع فيها بأي شكل من الأشكال نفس الدوائر الانتخابية في كل المحافظات، فروعيت فيها المصالح السياسية والطائفية لبعض القيادات، فكانت هذه الدوائر تترواح بين الأقضية وجمع أخرى واعتماد المحافظة، وفي عام 2009 كان عود على بدء باعتماد قانون عام 1960، وفي انتخاب 2018 كانت انتخابات على أساس 12 دائرة انتخابية ووفق نسبية مشوهة.
الجدير بالذكر هنا، أن المجلس الدستوري كان قَبِلَ في انتخابات العام 1996 طعناً بشأن تقسيم الدوائر الانتخابية، ومدة المجلس النيابي بجعلها 4 سنوات و8أشهر فتم تعديل القانون بان تضمن القانون بالنسبة للدوائر التي تم اعتماد القضاء فها، خصوصاً في جبل لبنان لمرة واحدة واستثنائية، والغيت الثمانية أشهر الإضافية، لكن هذا الامر تم تمريره في انتخابات العام 2000 ولم يتم الطعن بهذا القانون، ومدد عمر المجلس المنتخب بجعله 4 سنوات و8أشهر.
أما بالنسبة لإلغاء الطائفية السياسية فلم يتم اعتماد ما تم الاتفاق عليه في الطائف من اتخاذ الاجراءات الملائمة لتحقيق هذه الهدف بعد انتخاب أعضاء المجلس النيابي منذ عام 1992 على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين والتي أكدت على تشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية لهذه المهمة.
بهذا النذر مما جاء في وثيقة الوفاق الوطني لجهة تطوير النظام وإصلاحه سياسياً واقتصادياً ومالياً واجتماعياً، يتضح أن التسوية التي تم التوصل إليها قبل 32 عاماً، لم يتسن لها أن ترى النور، من أجل تطوير الحياة السياسية والديمقراطية فكانت بالتالي وعوداً على نحو ما تم التوصل إليه في العام 1943 من خلال الميثاق الوطني التي عكسها البيان الوزاري الأول لأول حكومة استقلالية، حيث وعد البيان بعدة أمور إصلاحية لتطوير النظام السياسي، لكنها بقيت بياناً للذكرى أو للأرشيف وكان أهم ما وعد به البيان الاستقلالي الأول:
- معالجة الطائفية لأن الساعة التي يمكن فيها إلغاء الطائفية هي ساعة يقظة وطنية شاملة مباركة في تاريخ لبنان، ونسعى لكي تكون هذه الساعة قريبة بإذن الله.
- ورأت الحكومة الاستقلالية الأولى في قانون الانتخاب عيوباً وهي لذلك ستتقدم قريباً بتعديل قانون الانتخاب تعديلاً يضمن أن يأتي التمثيل الشعبي أصح واكثر انضباطاً مع رغبة اللبنانيين.
كما وعد البيان الميثاقي لحكومة الاستقلال بالاحصاء الشامل والاصلاح الإداري وتنظيم القضاء وإصلاح النظام المالي والضريبي وتطوير الزراعة والصناعة الخ ...
ولانه لم يتم تنفيذ البنود الإصلاحية في اتفاق الطائف، فقد شهدنا ارتفاع الحدة الطائفية في الخطاب السياسي اللبناني، ترجم في قيام تجمعات وتحالفات سياسية ذات أبعاد طائفية، على نحو ما شهدنا في لقاء قرنة شهوان، الذي ضم نواباً وشخصيات وأحزاباً مسيحية تحت رعاية بكركي، وكان يرأس اجتماعات هذا التحالف المطران بشارة. وقام في مقابل قرنة شهوان اللقاء التشاوري الذي ضم عددا كبيراً من النواب المسيحيين برئاسة النائب قبلان عيسى الخوري.
وفي مقابل قرنة شهوان، نهضت خلية حمد برئاسة الشيخ طه الصابونجي وشهدت سنة 2003 مزيداً من الحوارات والنقاشات الطائفية، حتى بدت الامور تتجه نحو الاتساع على قاعدة الخطاب الطائفي مستعيدة الكثير من تفاصيل الأزمات التي شهدها لبنان في أعوام 1952، 1958، 1968، 1969، 1975، 1989.. بحيث ما أن اقترب العام 2005 حتى بدت الساحة اللبنانية، وكأنها تنتظر الشرارة، التي كانت زلزالاً كبيراً في 14 شباط 2005 لتنفتح الازمة على شتى التطورات والاحتمالات.
ويذكر أن لبنان كان يشهد منذ العام 1992 أزمات متنوعة بين مختلف الافرقاء السياسيين اللبنانيين كان الراعي السوري يعمل على حلها بطريقته، لكن الأزمة هذه المرة تصاعدت لتتحول إلى سلسلة من الأزمات، في ظل تجميد مذهل وغير مبرر للمؤسسة التي تضبط عمل المؤسسات الدستورية، وتفسر القوانين والمواد الدستورية وعنيت بها المجلس الدستوري، الذي لو كان قادراً على العمل لأنجز حلاً لمزيد من العقد القانونية والدستورية التي تصاعدت أمامها الدعوات إلى الحوار والتلاقي ... .
يتبع ...
(حلقة جديدة كل ثلاثاء وخميس)