أقلام الثبات
أسقطت السلطات آخر أوراق التين التي كانت تستر عري نظامنا المالي-السياسي الفاسد والفاجر، بإجبارها مجلس شورى الدولة على التراجع عن أحد القرارات الجريئة التي أنصف فيها الناس. وشكل الإجتماع الهمايوني المالي السياسي- القضائي الأخير في بعبدا، فضيحة الفضائح في مسار تعامل الدولة، بكل مكوناتها، مع أموال الناس المسروقة، التي بنى بها أهل السطوة نفوذهم ودورهم وقصورهم؛ وهربوا ما بقي منها إلى الخارج، لينفذوا الأمر الأميركي بتجويع اللبنانيين وإذلالهم، لإخضاع إرادتهم للغزاة الصهاينة وللمطبعين معهم من حكام الذلة والمهانة، الساعين لإقامة تحالف عربي- "إسرائيلي" على حساب فلسطين ودماء وحقوق شعبها.
وكشفت تطورات الأيام المعدودة الماضية، أن كل ما يكال لرياض سلامة من إتهامات، ما هو إلا ذر للرماد في عيون اللبنانيين، الذين باتوا فريسة الفقر والجوع. وأن "الدولة" بقضها وقضيضها متضامنة مع ما فعله سلامة من جرائم مالية وهندسات وتغطية صفقات، تنفيذاً لرغبات أهل السلطة والمال والنفوذ، الذين يدعمونه ويحمونه، لأن كل أسرارهم المالية وأرقام صفقاتهم وتحويلاتهم وسرقاتهم محفوظة لديه.
جريمة مجلس شورى الدولة، التي سارع الجمع للملمتها والغاء مفاعيلها، أنه أقر بحق الناس أن تستوفي إيداعاتها المالية بالعملة التي أودعتها بها. وليس باي عملة أخرى، بغض النظر عن السعر الذي بات رقمه متاهة لتضييع حقوق الناس وتضليلهم وتخسيرهم جنى عمرهم، الذي أودعوه في المصارف. وإذ بنفوذ أصحاب المصارف يكشر عن أنيابه، فلم نجد سياسياً ولا زعيماً طائفياً يطالب بحق الناس في أموالها، بل ساد صمت القبور، في تواطؤ كبار السياسيين، موالين ومعارضين، على تضييع الحقيقة وترك اللبنانيين فريسة للغلاء المتفاقم الذي يكويهم؛ والفقر المدقع الذي دخل بيوتهم، والخوف على المستقبل والمصير الذي يرافق هجرة أبنائهم طلباً للقمة العيش في بلاد الإغتراب.
لم يقل قرار الشورى بصرف دولارات المودعين على سعر 1507 ليرات ولا على سعر 3900 ليرة. بل حدد بديهية قانونية وشرعية وهي أن الوديعة تدفع بالعملة التي أودعت بها. لكن أصحاب المصارف وحاكم مصرف لبنان وشركائهم في السلطة، إستقووا بالدولة على الناس. والتف حاكم مصرف لبنان، باعتباره رأس المنظومة المصرفية القائمة، على توصية الشورى؛ وأبلغ المصارف بوقف الصرف على سعر 3900 ليرة والعودة إلى الصرف على سعر 1507 ليرات، مما أوجد ردة فعل في الشارع، كانت مناسبة ليستفيد منها مدعو الحرص على حقوق اللبنانيين وأموالهم، لو كانوا صادقين، للضغط على رياض سلامة وأصحاب المصارف، ليعيدوا للمودعين اللبنانيين أموالهم بالعملة التي أودعوها لديهم وليس باي عملة أخرى. لكن جرى "تربيح الناس جميلة" من جيوبها، على قاعدة الإختيار بين السيء والأسوأ؛ واعتبار تعميم مصرف لبنان الرقم 151 ما يزال سارياً، أي أن دولار المودعين لدى المصارف يسعّر ب 3900 ليرة فيما سعره الحقيقي المتداول في الأسواق فوق 13 ألف ليرة. وهذه محطة أخرى في مسار لصوصية الحاكمين وفسادهم.
مشكلة "هذه الدولة" أنها منذ أن أنشأها الإنتداب الفرنسي، لا تملك مقومات الدولة ولا مواردها للعيش. ولا تريد بناء وطن منتج، لأن ذلك يبدل في آلية تشكيل السلطة وتوازناتها. لذلك تعودت على التسول من هذا وذاك. وفساد "السلطان سليم الخوري" وتبعية كميل شمعون، ثم تراجع فؤاد شهاب أمام "أكلة الجبنة" وعشائرية سليمان فرنجية، تؤكد عقم هذا النظام القائم على المحاصصة الطائفية، التي تحضن وتحمي الفساد والفاسدين.
والأدهى، أن دولتنا هذه، اعتادت على الترسمل من مصائب الآخرين. فهي ترسملت على نكبة فلسطين واموال اللاجئين، فمررت مرحلة من حياتها. ثم جاءت إنقلابات الدول العربية عاملاً لنزوح رساميلها إلى لبنان، فمولت بها مرحلة ثانية. وجاءت فورة النفط العربية وغياب مؤسسات التعليم والطبابة في تلك الدول التي أصابها الغنى فجأة، فكانت ورقة اليانصيب التي ربحها لبنان، لكن إلى حين. ثم جاء وجود المقاومة الفلسطينية وصراع الأنظمة العربية على ساحة لبنان، ليؤمن ضخاً مالياً غزيراً موّل عقدين من عمر النظام اللبناني. واكتشف رفيق الحريري هذه الحقيقة، فغطاها بالإستدانة التي إستهلكت أموال البلاد، ثم عمد مع المستفيدين من كبار "رجالات" الدولة، إلى إقرار الإستدانة بالعملات الصعبة، فرهنوا بذلك البلد للخارج ووضعوا لبنان أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الالتحاق بركب السائرين على طريق الإعتراف بالكيان المصطنع الذي يحتل فلسطين، على وعد أن يقوم أهل النفط بسداد ديون لبنان، بأوامر من سيدهم الأميركي. وإما أن يصل الوضع اللبناني إلى الإنفجار، في وجه كل من يرفض ذاك الخيار الخياني، على إعتبار أن الممسكين بمقاليد الدولة والحكم في لبنان، قادرون على تعطيل أي توجه آخر قد ينقذ لبنان من هذه الحفرة العميقة؛ وهذا ما نشهده بأم أعيننا في رفض هؤلاء أي توجه نحو الشرق. كما في منعهم ورفضهم للقبول بأي عرض روسي أو صيني أو إيراني، أو حتى عراقي، في مختلف المجالات، يساعد لبنان لمواجهة هذه المحنة التي صنعت عن قصد لتركيع شعبه وفرض خيارات عليه لا يمكن أن يقبل بها في ظروف سليمة.
ولننظر بعيون واعية، لنرى أن الأصوات التي طالما عابت على القضاء تجاهله لما يقوم به رياض سلامة وأصحاب المصارف، هبت معا تنتقد قرار شورى الدولة. وهي تقول بالفم الملآن أنها أبواق مأجورة عند رياض سلامة واصحاب المصارف وشركائهم زعماء الطوائف. وأن أهل هذا النظام الذين لم يجدوا هذه الأيام مصيبة في الخارج يترسملون عليها وينقذون بها وضعهم المالي، قرروا أن يكون اللبنانيون هم المصيبة التي يستغلونها، فالمهم لديهم هو بقاؤهم وبقاء هذا النظام بقرة حلوب لهم ولأبنائهم وأتباعهم.