الثبات ـ ثقافة
بينما كانت فلسطين تشهد صراعات بين أبناء شعبها والمهاجرين الصهاينة في ثلاثينيات القرن العشرين، ظهرت أول جهود سينمائية فلسطينية متواضعة، قام بها إبراهيم حسن سرحان، رائد السينما الفلسطينية. ولاحقاً انضم إليه مخرجون آخرون، معظمهم هواة مثله تعلموا السينما بأنفسهم، لكن جهودهم لم تثمر إلا عن بعض الأفلام الوثائقية وفيلم روائي واحد قبل النكبة عام 1948 حينما نزحوا مع أبناء شعبهم إلى دول عربية مجاورة، حيث قاموا بصنع أفلام في إطار صناعة أفلامها.
في الوقت نفسه، ظهرت السينما الصهيونية، وخلافاً للفلسطينية، لم تكن محلية الطابع، بل كانت دعائية وترويجية تستهدف يهود الغرب من أجل الحصول على دعمهم المادي أو استدراجهم للقدوم إلى فلسطين. وبعد قيام دولة إسرائيل، سنت حكومتها قانوناً لدعم السينما واستخدامها كسلاح ناعم في حربها ضد العرب، فأنتجت مئات الأفلام التي طرحت فيها الصراع العربي – الإسرائيلي من منظورها مروجة لكيانها كحضارة غربية متطورة. تلك الأفلام وصلت إلى العالمية وشارك العديد منها في المهرجانات العالمية، من بينها عشرة رشحت لجوائز أوسكار أفضل فيلم بلغة أجنبية، لتصبح إسرائيل واحدة من الدول العشر الأكثر ترشحاً للأوسكار، بينما حُرم الفلسطينيون من المشاركة في المنافسة على الجائزة حتى عام 2003.
أما السينما الفلسطينية فقد وجدت هويتها في الشتات بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1965، حيث ظهرت سينما الثورة الفلسطينية، التي كانت مبنية على أفلام ثورية مدعومة من قبل الحركات الفلسطينية المختلفة، لهذا كانت تركز على رسالتها السياسية وتوثيق النضال الفلسطيني بدلاً من القيم الفنية، التي كانت عادة متواضعة، وبالتالي كانت محصورة في استهلاك محلي ولم تصل الى العالمية. وقد استولت اسرائيل على أرشيفها في بيروت خلال اجتياح لبنان عام 1982 وما زال في حوزتها.
آنذاك، ظهرت السينما الفلسطينية الجديدة بمبادرات من مخرجين فلسطينيين درسوا السينما في الغرب. مثل مي المصري، التي انتقلت من سان فرانسيسكو الى لبنان وقامت بإنتاج عدة أفلام وثائقية، على مستوى عالمي، عن الواقع الفلسطيني في المخيمات هناك.
انطلقت السينما الفلسطينية الجديدة داخل فلسطين بعد أربعين عاما من النكبة على يد رائدها ميشيل خليفي، الذي عاد إلى الناصرة، مسقط رأسه، بعد أن درس السينما في بلجيكا، وصنع الفيلم الوثائقي، الذاكرة الخصبة، عام 1980 وهو أول فيلم فلسطيني طويل يصوّر في فلسطين منذ عام 1948.
في عام 1987 أخرج خليفي، “عرس الجليل” الذي كان أول فيلم روائي فلسطيني يصل إلى المهرجانات العالمية. كما فاز بجوائز مهمة مثل “الصدفة الذهبية” في مهرجان “سان سبستيان” الإسباني و”الفيبريسي” في مهرجان كان الفرنسي. وتلاه رشيد مشهراوي، الذي أيضاً درس السينما في بلجيكا وعاد الى غزة، حيث أخرج فيلمه “حيفا”، الذي يعتبر أول فيلم فلسطيني يشارك رسمياً في مهرجان كان العريق عام 1996. وفي تلك الفترة ظهر أيضا إيليا سليمان، الذي عاد إلى الناصرة بعد دراسته السينما في نيويورك، وابتكر سينما مميزة مبنية على تفاعل شعري بين الهزلية والرصانة شبهها المعلقون بسينما باستور كيتون وجاك تاتي.
“أنا لا أصنع سينما تبث شعارات سياسية، بل سينما شعرية وممتعة تطرح تساؤلات في الوقت نفسه”، يقول سليمان. “كل فيلم من أفلامي سجّل لحظة تاريخية، فمثلا “يد إلهية”، كان عن الانتفاضة، و”سجل اختفاء” كان عن بداية “أوسلو”. أنا لا أطرح القضية الفلسطينية. بل أعيش حالات شخصية واجتماعية، والحالة الفلسطينية موجودة بالفعل. إنه لخطأ فني أن تكون غايتي هي الحديث عن فلسطين. أنا أصنع سينما وفي السينما تطرح القضايا الفلسطينية.
فيلم سليمان الروائي الأول، “سجل اختفاء” كان أول فيلم فلسطيني يعرض في الولايات المتحدة عام 1996. بينما يعزز فيلمه “يد إلهية” قيمة السينما الفلسطينية على الساحة العالمية عندما يفوز بجائزة الحكام في مهرجان كان السينمائي عام 2002.
نجاح يد إلهية العالمي أجبر أكاديمية علوم وفنون الصور المتحركة الأمريكية، التي كانت لا تعترف بفلسطين، على قبوله للمنافسة لأوسكار أفضل فيلم بلغة أجنبية عام 2003 ممثلا فلسطين. لكن عندما نالت فلسطين أول ترشيح للجائزة عام 2007 عن فيلم هاني أبو اسعد، “الجنة الآن”، أشعلت المجموعات اليهودية المناصرة لإسرائيل حملة صاخبة ضد استخدام اسم فلسطين، فقررت الأكاديمية تقديم الفيلم كممثل للسلطة الفلسطينية، ما أثار غضب أبو أسعد. وفي النهاية صنفت الفيلم كممثل للأراضي الفلسطينية. ويعتبر “الجنة الآن” أول فيلم ناطق بالعربية يرشح للأوسكار، وهو الفيلم العربي الوحيد الذي فاز بجائزة “الغولدن غلوب” لأفضل فيلم بلغة أجنبية. “الناس صاروا يدركون كذبة كيان الاحتلال ويتعاطفون معنا ومع قضيتنا”، يقول أبو أسعد.
وبعد منح الأمم المتحدة فلسطين منصب دولة غير عضو في الأمم المتحدة عام 2012، وافقت الأكاديمية على تمثيلها للأفلام الفلسطينية في فئة أفضل فيلم بلغة أجنبية. وبعد عام نال أبو أسعد ترشيحاً ثانيا عن فيلمه “عمر” في تلك الفئة، متغلباً على الفيلم الإسرائيلي، “بيت لحم”، الذي عالج الموضوع نفسه، وهو إجبار الشباب الفلسطينيين على التعاون مع المخابرات الإسرائيلية في الضفة الغربية. وفضلا عن أبو أسعد، رُشح أربعة مخرجين فلسطينيين في فئات أخرى ليصبحوا أكثر السينمائيين العرب ترشحاً للأوسكار.
“عندنا دافع أقوى من غيرنا لأننا نشعر أن مقاومة الظلم هو بطريقة طرح فننا” يقول أبو أسعد. “لكي تحارب بلغتك السينمائية عليك أن تطورها وعليك أن تكون من الأوائل. فرغم التضامن العالمي، يحاربونك فقط لكونك فلسطينيا. وتدرك أنك لتحقق دعم المتضامنين معك، عليك أن تكون مميزاً وأفضل من الآخرين بضعفين وليس بضعف واحد” فقط.
لكن السينمائيين الفلسطينيين يفتقرون لمؤسسات وطنية أو حكومية تدعم مشاريعهم، فيضطر معظمهم، وتحديداً الذين يحملون الجنسيات الغربية، لطلب الدعم المادي من الصناديق الأوروبية، التي تشترط معايير يرى كثير منهم أنها لا تتفق مع رؤيتهم لقضيتهم.
“دائما أواجه تلك الضغوطات” يقول المخرج سامح زعبي، الذي يقطن في نيويورك وسبق أن حصل على دعم مادي من صناديق أوروبية. “الفرنسي يرى القضية بصورة ما والبلجيكي يراها بصورة أخرى والأمريكي لديه نظرته الخاصة، فأنت تأخذ ملاحظاتهم وتحاول أن تبني شيئاً صادقا لك.”
أما أبو أسعد، فقد توقف عن طلب الدعم من الصناديق الأوروبية منذ أن وصل العالمية بفضل فيلمه “الجنة الآن” وصار يعتمد على دعم المستثمرين الفلسطينيين. “كان علي أن أفعل ذلك لكي أتخلى عن ضغط الصناديق، لأن الأمر صعب جداً.”
أما الذين يحملون الهوية الاسرائيلية وحسب، فليس أمامهم سوى طلب الدعم من الصناديق الإسرائيلية، التي تفرض عليهم تمثيل إسرائيل في المناسبات العالمية. لكنهم كثيراً ما يتمردون عليها.
فعندما قدمت سها عراف فيلمها، “فيلا توما”، الذي أنتج بتمويل إسرائيلي، كفيلم فلسطيني في مهرجان فينيسيا عام 2014 طالبت إسرائيل باستعادة أموالها. بينما أثار غضبها إسكندر قبطي، مخرج الفيلم الإسرائيلي – الإنتاج، عجمي، عندما صرح في هوليوود عام 2009 حيث رُشح الفيلم للأوسكار قائلا: لا يمكنني تمثيل دولة لا تمثلني.
“محافظتك على هوية الفيلم الفلسطينية هي جزء من الصراع”، يقول زعبي، الذي حصل على دعم من الحكومة الإسرائيلية لتمويل فيلمه “تل أبيب على نار”. “أنت كمخرج عليك أن تكون واعياً لخطر الوقوع في فخ أن تصبح جزءاً من دولة الاحتلال مقابل هذا الدعم.”
وتقاطع الدول العربية أفلامهم وتمنع عرضها وتحرمها من المشاركة في مهرجاناتها السينمائية، مثل فيلم “تل أبيب على نار” الذي رفضته كل المهرجانات العربية، رغم أنه مثل لوكسمبرغ في منافسة الأوسكار.
“فيلمي لا يمثل إسرائيل” يحتج زعبي. “نلجأ لتمويل إسرائيلي لأنه ليس لنا مصدر آخر. ولا يوجد لنا فرص في العالم العربي كوننا نحمل الجوازات الإسرائيلية. ومن جهة أخرى، هذه أموال ضرائبنا التي دفعناها، ومن حقنا أن نأخذها. لم أغير أبداً هويتي كفلسطيني، وهوية الفيلم هي هويتي وهوية القصة.” لكن أبو أسعد يرفض أن يأخذ موقفاً في هذا السياق، متفهماً كلا الطرفين. “المخرج الفلسطيني ليس عنده خيار آخر وهو يسترجع أموالا هو دفعها في إسرائيل، ومن جهة أخرى العالم العربي يرفض التطبيع حتى ولو عن طريق مخرج فلسطيني، خشية من التسيب أو التلاعب بالأمور. طبعاً، عدم عرض الأفلام التي تمس قضايانا الداخلية في العالم العربي أمر سيىء ولكن مقاطعة الكيان الصهيوني أمر جيد. وبالتالي من الصعب الإفتاء في هذا الموضوع.”
لهذا هاجر عدد من المخرجين الفلسطينيين إلى الغرب من أجل الحصول على دعم من صناديق خارج إسرائيل. “نحن تعودنا على مثل هذه الصعوبات والتحديات وهذا أمر جيد لأنه يجبرك على تطوير فنك إلى الأفضل. ومن جهة يدفعك الى إيجاد مصادر أخرى للتمويل”، يعلق أبو أسعد.
رغم كل العقبات التي واجهها السينمائيون الفلسطينيون، داخل وخارج وطنهم، إلا أنهم نجحوا في تعزيز الحضور الفلسطيني على الساحة العالمية حضارة وثقافة وفناً من خلال خلق سينما راقية طرحت واقعهم من منظورهم وحافظت على هويتهم التي كادت تمحوها السينما الإسرائيلية، التي تحصل على دعم مادي قدره عشرون مليون دولار سنوياً من حكومتها فضلاً عن الدعم الغربي.