أقلام الثبات
هناك من يعتقد في لبنان أن المتمسكين بتكليف سعد الحريري تشكيل حكومة تخلف حكومة حسان دياب المستقيلة، يدركون أن المكلف يعمل على طبخة بحص لن تنضج أبداً، لكنهم، كما الحريري نفسه، يعملون على تقطيع الوقت في إنتظار مستجد ما على صعيد المنطقة، يغير المعطيات التي تجعلهم يفضلون هذا الخيار على مرّ ما يرونه خياراً بديلاً أكثر سوءاً.
فالحريري الذي تسلط الأضواء على مشكلتين فقط تواجهانه، في مسعاه المفترض لتشكيل حكومة، يحمل بين يديه ما يشبه القنابل الموقوتة، التي تمنعه من تشكيلها. وإذا نجح وشكلها، فإن الفشل وتفاقم الأزمات ينتظرانه هو والبلد برمته.
لا تقتصر مشكلة الحريري على خلافه مع رئيس الجمهورية ميشال عون ومن خلفه رئيس التيار الوطني جبران باسيل، من جهة؛ والفيتو السعودي الموضوع عليه رفضاً لأن يكون رئيس حكومة في لبنان من جديد، لأسباب سعودية وإقليمية أكثر منها لبنانية، من جهة أخرى. لكن الحريري إذا دخل السراي الكبير مجدداً، سيواجه مشاكل لن تكون أقل شدة عليه وعلى لبنان. وهي في الحد الأدنى، ستكون في تجدد ما هرب من مواجهته في 17 تشرين 2019 وقدم إستقالة حكومته، لأنه لا يملك الأجوبة الشافية على أسئلة أثيرت في وجهه. كما أن برنامجه "الإنقاذي" الذي أعلنه إثر تقديمه الإستقالة، هو بحد ذاته باباً لمشكلة تؤدي إلى تجمع معظم اللبنانيين في مواجهته، رفضاً للخيارات الإقتصادية والسياسية التي يتبناها "لإنقاذ" البلد من السياسات الإستثمارية، التي إعتمدتها الحكومات الحريرية منذ ثلاثين سنة؛ والتي أوقعت البلاد في مستنقعات الهدر والفساد والديون وصولآ إلى الإفلاس، الذي جعل حكومة دياب تدوخ في متاهة، بين أن ترفع الدعم عن السلع الضرورية لحياة اللبنانيين؛ وبين خياري إعطائهم بطاقات تمويلية أو تموينية، مقابل التخلي عن الدعم المذكور، بعد إعلان مصرف لبنان عجزه المالي عن الإستمرار في سياسة الدعم المذكورة.
والحريري إذا شكل حكومة، سيعود إلى معزوفته وادعائه بأنه هو قائد "الثورة ضد الفساد"، لكنه في الحقيقة يسعى للتفرد بالسلطة وتشكيل حكومة مستشارين، يختارهم بما يرضي صندوق النقد الدولي ودول العقوبات المفروضة على لبنان وأولها الولايات المتحدة والمملكة السعودية. وهذا باب شر مع أكثر من طرف لبناني.
و"حكومة المهمة"، التي يعد الحريري بأنها ستخرج زير لبنان من البئر الذي رمته فيه سياساته المالية وسياسات من سبقه من الحكومات الحريرية، لن تكون حكومة تطبيق التدقيق المالي الجنائي. فهذا التدقيق إذا قيض له سلطة تأخذ به سيودي بالحريري وكامل الطاقم السياسي اللبناني إلى السجن. ومعهم كل المتعهدين وأصحاب الصفقات ومالكي المصارف ومدرائها؛ وحاكم المصرف المركزي وكل من أهدر مالاً من الخزينة العامة؛ وصولاً إلى من أمر ووافق على جعل الفوائد على ديون الدولة تتخطى الأربعين في المائة، في عملية نهب منظمة للبلد قلما تعرض لها شعب مثلما تعرض لها الشعب اللبناني. بل أن اللبنانيين يحلمون بمحاسبة من قرر ومرر في مجلس النواب، لجعل الديون على لبنان بالعملة الصعبة، بعد تضخمها بالليرة اللبنانية.
لن يقبل الحريري ولا رفاقه في تحالف زعماء الطوائف واصحاب المصارف وكبار الأثرياء، الذين أفلسوا لبنان وسرقوا شعبه، أن يحاسبوا أنفسهم، أو أن يردوا الأموال التي نهبوها من خزينة الدولة وجيوب اللبنانيين. وإلا فليعدلوا شروط قانون محاكمة الرؤساء والوزراء المستحيلة التطبيق، إذا كانوا أبرياء.
ما يسعى إليه الحريري في إدعائه أنقاذ البلد، هو تحويل لبنان كله إلى "سوليدير" كبير و"سوكلين" مركزية، يستثمرهما بالمحاصصة مع شركائه في السلطة والحكم. ويمعن فيه في إفقار اللبنانيين وسحقهم، أكثر مما باتوا مسحوقين، ليعوض عن إفلاس شركاته وليتجنب التهديد السعودي بمحاكمته بتهمة الفساد، باعتباره مواطناً سعودياً.
يرفع الحريري شعار حكومة مهمة من إختصاصيين ومن غير أحزاب. وشخصه بذاته يناقض هذه المطالب، فهو سياسي ورئيس حزب. ولا إختصاص له غير تبديد الثروة التي ورثها عن والده، التي جمع معظمها من أموال اللبنانيين.
كما أن الحريري لن يجروء على رفض الشروط الأميركية في التزام "خط هوف" في ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة. وهو بالتاكيد، سيحاول إرضاء المملكة السعودية بالإبتعاد عن محور المقاومة وتقريب لبنان من طابور الزواحف من الحكام العرب، المطبعين الراكعين أمام الأوامر الأميركية والأطماع "ألإسرائيلية". وهو لن يكون حامي ثروات لبنان من النفط والغاز، التي يطمع فيها الأميركي و"الإسرائيلي" ويعطلان إستخراجها، فبمن يستقوي الحريري لحماية النفط إن لم يستقو بالمقاومة؟
والحريري، كما قال في برنامجه "الإنقاذي"، سيواصل سياسة الإستدانة وسيغطيها ببيع أملاك الدولة ورهن كل ما تبقى في البلد للخارج، طالما أن ذلك يؤمن مدخولاً للطبقة السياسية، تمول به نفسها وعصاباتها من الأزلام والمحاسيب والأتباع.
والحقيقة الماثلة، أنه منذ أن بدأت جولات المندوبين الأجانب إلى لبنان، خصوصاً المكلفين تطبيق مقررات مؤتمرات "سيدر"، كان واضحاً أن كل الحلول المقترحة لأزمة لبنان المالية، تلحظ إستمرار الإستدانة. في تكريس لما فرضته الحريرية السياسية منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، تحت حجة أن إنخراط لبنان في مسيرة السلام الآتي، سيدفع ثمنه حكام دويلات الخليج من مال نفطهم، لسداد ديون لبنان المتراكمة. وها هي صفقة القرن تترنح تحت ضربات صواريخ غزة الصامدة.
وللتذكير، فإن حملة الإستدانة والإفقار تلك، التي ترافقت مع هدر كبير وسرقات موصوفة للمال العام، كانت تهيئة للأرضية المناسبة لحرب الإخضاع المالي، التي نفذتها إدارة الرئيس الأميركي الفاشل والأحمق دونالد ترامب ومعها المملكة السعودية ومن يسير في ركابها. والتي لم يظهر حتى الأن أن إدارة جو بايدن ستحيد عنها.
وحتى خطة الإنقاذ التي طرحها الحريري قبل إستقالة حكومته، تركزت على عنصر الإستدانة. في حين أن المليارات الحرام التي سرقها حكام لبنان والنافذون فيه، طوال العقود الثلاثة الماضية، أكملت بسرقة مدخرات اللبنانيين في المصارف؛ وبتهريبها إلى الخارج. ويعلم اللبنانيون أن حلول الحريري ترتكز على الإستمرار في فرض الضرائب وضغط الرواتب، بما يطال الشريحة الأفقر والأوسع من اللبنانيين.
كما أن سعد الحريري، ليس رجل المواجهة القادر على رفض المطلب الأميركي والغربي بتوطين اللآجئين الفلسطينيين، ودمج النازحين السوريين المعارضين في البيئة اللبنانية، بل لعله يعتقد أنها تفيده سياسياً وشعبياً.
إذاً، هذا هو الخيار السيء، أما الخيار الأسوأ، فهو القبول بالمرشح الأميركي- السعودي نواف سلام. فهو إلى جانب كل سيئات الحريري، قد يدفع لبنان إلى أتون حرب داخلية. وبين السيء والأسوأ، يبقى خيار اللبنانيين بالتخلص من هذا النظام العفن ومن رموزه الفاسدة، والدخول في دولة المواطنة والكفاءة والعدالة. ولو كره الطائفيون والعنصريون.