حوارات ودماء واجتياح وفراغ رئاسي
أقلام الثبات
ثمة أسئلة كثيرة يطرحها اللبنانيون، كلما سمعوا عن حوار مزمع، أو التحضير لحوار، ومن هذه الأسئلة:
ماذا يمكن أن ينتج، وماذا ينتظرنا بعده وهل نحن أمام هدوء واستقرار أم أمام مرحلة جديدة من مخاض صعب لا يعرف متى ينتهي؟
واللبنانييون كما كانت حواراتهم تنتج أحياناً أزمات أو مدخلاً لأزمات كبرى، وحروب، كانت أيضاً مدخلاً لحلول، وفي كل الحالات، فإن التشديد والعمل من أجل الحوار له معنى واحد أن هناك أزمة ولابد من حل لها.
مع إطلالة ثمانينيات القرن الماضي كانت بوصلة التطورات اللبنانية تؤشر نحو مزيد من الانقسام والتفرقة وتدهور المؤسسات، وتراجع اي فسحة للحوار، ووصل الامر بعد الاستيلاء على أثير الهواء، بقيام إذاعات خاصة، إلى السيطرة على أقنية الهواء، والانفصال عن الدولة، فكانت محاولة قيام محطة تلفزيونية من قبل "القوات اللبنانية" فتصدى لها رئيس مجلس إدارة تلفزيون لبنان الدكتور شارل رزق على اعتبار أن كل الاقنية هي حق حصري لتلفزيون لبنان، فكان أن خطف لعدة أيام في محاولة للضغط من أجل قيام محطة تلفزيونية خاصة شهدت النور في العام 1986. وفي محاولة سباق بين التصعيد العسكري بين الميليشيات المختلفة من جهة، ومحاولات لوقف التدخل الاسرائيلي الذي اصبح مباشراً في الشؤون الداخلية اللبنانية، جرت محاولات لوقف التدهور كان أبرزها مؤتمر بيت الدين في تموز 1981 والذي عقد برعاية عربية تمثلت بحضور ورعاية عربية سعودية، سورية وكويتية، وقدمت الى المؤتمر وثيقة من الرئيسين الياس سركيس وشفيق الوزان تمثل البرنامج السياسي لحل الازمة اللبنانية وبرنامج زمني لتأهيل الجيش اللبناني، كما تضمنت هذه الوثيقة الإجراءات الضرورية لخلق المناخ الملائم لتنفيذ البرنامج السياسي، لكنها لم تفلح.
ما أن أطل عام 1982، وهو عام الانتخابات الرئاسية، حتى كان لبنان قد اصبح على خط الزلزال، وبدأ طرح الأسماء التي يمكن أن تخلف الرئيس الياس سركيس، والذي ترافق مع تدخل اسرائيلي واسع في الشؤون اللبنانية. وصلت الى حد بدء كبار المسؤولين الاسرائيليين بزيارة لبنان بصورة سرية، ويكشف الوزير السابق بقرادوني عن اجتماع عقد مع وزير الدفاع الاسرائيلي آنئذ اريائيل شارون في منزل بشير الجميل في الاشرفية، في شهر كانون الثاني 1982، حضره بالإضافة إلى بشير: بيار الجميل، وكميل شمعون وعدد من المساعدين. وفي هذا الاجتماع أبلغ شارون المجتمعين أن ثمة قراراً اسرائيلياً بتدمير البنى التحتية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأن البحث يدور داخل الحكومة الإسرائيلية حول عمليتين: واحدة محدودة ذات بعد أمني تقضي على الآلة العسكرية الفلسطينية في جنوب لبنان وتصل الى الليطاني، وثانية كبيرة ذات بعدين أمني وسياسي، تدمر الآلة الفلسطينية في الجنوب وفي بيروت. وفعلاً جاءت محاولة اغتيال السفير الاسرائيلي في لندن شلوموا ارغوف في أول حزيران 1982 الشرارة التي تذرعت بها تل ابيب لبدء عملية اجتياحها للبنان في 4 حزيران والتي وصلت اندفاعاتها نحو بيروت.
مع الساعات الأولى من بدء الاجتياح الاسرائيلي تحول تلميح بشير الجميل في العام 1981 الى امكانية ترشحه الى رئاسة الجمهورية، إلى حقيقة بإعلانه الترشح علناً، حيث تم انتخابه في المدرسة الحربية في الفياضية في 23 آب 1982 . بعد أن جرت محاولات عدة للاتفاق على مرشح اجماع وطني لكنها لم تفلح، وقاطع هذه الجلسة 30 نائباً هم: جميل كبي، رشيد الصلح، زكي مزبودي، صائب سلام، فريد جبران، محمد يوسف بيضون، نجاح واكيم، عبد اللطيف بيضون، علي الخليل، نزيه البزري، ألبير مخيبر، توفيق عساف، ريمون إده، ناظم القادري، زاهر الخطيب، عبد المجيد الرافعي، عبد الله الراسي، هاشم الحسيني، ألبير منصور، خالد الرفاعي، حسن زهمول الميس، حسين الحسيني، عبد المولى أمهز، أحمد إسبر وسليم الداود. وجاء اغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميل قبل عشرة أيام من تسلمه مهامه الدستورية ليعيد الارتباك الى الاستحقاق الرئاسي، لكن سرعان ما تم الاتفاق على النائب امين الجميل كمرشح بديل فتم انتخابه في 8 أيلول، بعد أن كانت قوات الاحتلال الاسرائيلي قد اندفعت ليل 14 - 15 أيلول إلى بيروت الغربية وارتكبت مجازر صبرا وشاتيلا.
في 28 كانون الاول، وبعد مضي 96 يوماً على تسلم الرئيس امين الجميل مهامه الدستورية وقيامه بتحرك واسع كان أبرزه زيارته الى الولايات المتحدة الاميركية واجتماعه مع الرئيس رونالد ريغن، بدأت المفاوضات اللبنانية - الاسرائيلية برعاية اميركية في خلدة ونتانيا. وبعد 35 جولة من المفاوضات تدخل وزير الخارجية الاميركية جورج شولتز فكان اتفاق "السلام" المزعوم بين لبنان وإسرائيل فأقره مجلس الوزراء اللبناني في 14 أيار 1983 وفي 16 أيار أقره مجلس النواب بأكثرية 80 نائباً ومعارضة النائبين نجاح واكيم وزاهر الخطيب، وفي اليوم نفسه، أقره الكنيست الاسرائيلي بأكثرية 75 صوتاً وامتناع 45 ومعارضة 6، وفي 17 أيار وقع رؤساء الوفود اللبناني والإسرائيلي والاميركي الاتفاق موقعاً باللغات الثلاث: العربية والعبرية والانكليزية. ولكن منذ ذلك التاريخ بدأت المتاعب الفعلية واندلعت حرب الجبل التي شهدت اوسع عملية تدمير وتهجير، وعلى الاثر تحركت المبادرات الخارجية لوقف القتال وكان أبرزها المبادرة السعودية التي أوفدت الامير بندر بن سلطان الذي عمل مع رجل الأعمال السعودي من أصل لبناني رفيق الحريري (كما وصف آنئذ في وكالات الأنباء العالمية)، من أجل وضع حد لهذا القتال المدمر، فأمكن التوصل الى وقف لإطلاق النار بعد إعلان من دمشق في 12 أيلول. وفي حين كان الامير بندر ورفيق الحريري يقودان المفاوضات مع دمشق، رفعت حكومة الرئيس الجميل شكوى الى مجلس الامن، وأعلنت واشنطن تعزيز أسطولها في المياه الاقليمية اللبنانية.
في 26 أيلول قدم الرئيس شفيق الوزان استقالة حكومته، وفي الوقت الذي أعلن فيه وليد جنبلاط من دمشق نص وقف إطلاق النار في حضور وزير الخارجية عبد الحليم خدام والأمير بندر. وفي ظل هذه التطورات والحملات الإعلامية بين جبهة الخلاص الوطني وحركة "أمل" من جهة، وبين الحكم في لبنان من جهة ثانية، وفي ظل تبادل واشنطن ودمشق الاتهامات، وقع في 22 تشرين الاول تفجير مجموعتين انتحاريتين مقر قيادة المارينز الاميركية، ومبنى فرقة المظليين الفرنسي، أسفرت عن سقوط مئات القتلى والجرحى من الجنود الاميركيين والفرنسيين.
حوار عند بحيرة ليمان
هنا اتضح أمام الرئيس الجميل أنه لا مناص من بدء مسيرة الحوار التي دعت إليها السعودية، فاتصل بالرئيس حافظ الأسد وبالملك فهد بن عبد العزيز موجهاً إليهما الدعوة لحضور مؤتمر الحوار الوطني في جنيف الذي تقرر عقد أول اجتماعاته يوم 31 تشرين الاول بمشاركة: الرئيس امين الجميل، كميل شمعون، سليمان فرنجية، عادل عسيران، صائب سلام، رشيد كرامي، بيار الجميل، نبيه بري، ووليد جنبلاط، وبمراقبة وفد سعودي برئاسة وزير الدولة السعودي محمد ابراهيم مسعود، وقوامه السفير السعودي في بيروت احمد الكحيمي، ووفد سوري قوامه وزير الخارجية عبد الحليم خدام، بالإضافة الى رفيق الحريري.
تركز البحث خلال المؤتمر على إلغاء اتفاقية 17 أيار كشرط لإنجاح الحوار اللبناني - اللبناني، لكن الرئيس أمين الجميل رأى أنه لا بديل عن الاتفاق بالنسبة الى لبنان في ظل الاوضاع الاقليمية والدولية السائدة. وبعد ثلاثة أيام أنهى المؤتمر أعماله بالاتفاق على هوية لبنان العربية وبفشل الاتفاق على إلغاء 17 أيار ودعا البيان الختامي للمؤتمرين إلى الاستمرار في السعي لإنهاء الاحتلال الاسرائيلي، كما تقرر عقد الجلسة الثانية من الحوار في 14 تشرين الثاني، لكن الحلقة الثانية من هذا الحوار لم تعقد، فاستمرت الاوضاع الداخلية بالتصعيد فحدثت انتفاضة 6 شباط عام 1984 التي اخرجت الجيش من مواقعه في بيروت الغربية والضاحية، وعلى الاثر اعلن الرئيس الاميركي رونالد ريغن سحب وحدات المارينز وانسحبت وراءها الوحدات المتعددة الجنسيات. وفي 5 آذار، عقد مجلس الوزراء جلسة تقرر بموجبها الغاء اتفاق 17 أيار واعتباره باطلاً وكأنه لم يكن، وبهذا الإلغاء أصبح الطريق مفتوحاً أمام جولة جديدة من الحوار الوطني، فعقدت في 14 آذار 1984 في لوزان، حيث ركز المؤتمرون على وقف إطلاق نار فعلي وثابت وتأليف حكومة اتحاد وطني، وبعد بحث دام اسبوعاً لم يستطع المؤتمرون التوصل الى صيغة للإصلاح السياسي. وكل ما اتفق عليه كان تشكيل لجنة امنية عليا برئاسة رئيس الجمهورية أنيط بها تنفيذ خطة امنية لإقامة بيروت الكبرى وتشكيل هيئة تأسيسية لوضع مشروع دستور جديد للبلاد.
في منتصف شهر نيسان 1984، وبعد زيارة الرئيس امين الجميل الى دمشق اتفق على تشكيل حكومة وحدة وطنية، فكانت هذه الحكومة برئاسة الرئيس الشهيد رشيد كرامي وعضوية كل من: كميل شمعون، عادل عسيران، سليم الحص، نبيه بري، وليد جنبلاط، بيار الجميل، جوزف سكاف، عبد الله الراسي، وفيكتور قصير. تعثرت انطلاقة الحكومة منذ بدايتها، ما أضطر الرئيسان الجميل وكرامي الى الاستعانة بدمشق التي وافقت على ان تقوم بدور المرجعية، فمالت الامور نحو الحلحلة، وتقرر في 22 حزيران 1984 تعيين قائد جديد للجيش هو الجنرال ميشال عون، بدلاً من العماد ابراهيم طنوس، كما تقرر فتح مطار بيروت الدولي بعد توقف دام نحو 160 يوماً.
"يتبع" ...
(حلقة جديدة كل ثلاثاء وخميس)