أقلام الثبات
ما شهدته فلسطين المحتلة ، على وقع الاعتداءات والاقتحامات من قبل قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين في مدينة القدس خلال شهر رمضان المبارك ، لا سيما على المسجد الأقصى من جهة ، والسعي الحثيث للسيطرة على حي الشيخ جراح بعد طرد سكانه الفلسطينيين ، لصالح المستوطنين الصهاينة من جهة أخرى، ومن ثم التعرض لحي رأس العامود ومنع سكانه من إحياء ليالي شهر رمضان . مما دفع بقوى المقاومة إلى استشعار المخاطر الجدية التي تتعرض لها مدينة القدس والمسجد الأقصى وبقية المقدسات ، الأمر الذي وضعها عند تحمل مسؤولياتها الوطنية في منع الاستفراد بالقدس ، وتوجيه التحذيرات لقادة الكيان الصهيوني بعدم المس بها ، وتحديد مهلة زمنية لإخلاء باحات المسجد الأقصى وإلغاء اخطارات إخلاء منازل الفلسطينيين في الشيخ جراح ، ووقف ما تسمى ب"مسيرة الأعلام" الهادفة إلى تأكيد الكيان ومستوطنيه على أنّ مدينة والمسجد الأقصى هي يهودية وعاصمة لكيانهم بعد استكمال احتلالها ، وتحديداً في القدس القديمة . حيث حددت المقاومة الساعة السادسة من مساء يوم الاثنين 28 رمضان مهلة لتنفيذ مطالبها ، وإلاّ صواريخ المقاومة ستصل إلى مدينة القدس . وفعلاً استجابت المقاومة لنداءات أهلنا المقدسيين الذين أبلوا بلاءً رائعاً في مواجهة قوات العدو الصهيوني التي حاولت اقتحام المسجد الأقصى من دون جدوى .
وعند انتهاء المهلة التي حددتها المقاومة كانت صواريخها في الطريق إلى القدس ، وهذه تعتبر المرة الأولى في تاريخ الكيان ، إنّ هناك من يوجه تحذيراً يرتقي إلى حد الإنذار وينفذ تهديده . وهذا ما شكّل صدمة لقادة الكيان من تنفيذ المقاومة في قطاع غزة لتهديدها وقصف صواريخها الكيان الغاصب ووصلت إلى القدس . الأمر الذي شكّل رافعة لأهلنا المقدسيين الذين أدركوا وللمرة الأولى في تاريخ الصراع ، أنّ هناك مقاومة يمكن الاعتماد جدياً عليها في حماية القدس وأهلها من بطش وقمع العدو الصهيوني .
وبذلك ربطت المقاومة عمليات المواجهة العسكرية المفتوحة مع العدو الصهيوني بقضية القدس ومقدساتها . مع تدحرج العمليات العسكرية واتساع رقعة المواجهة منذ اليوم الثاني ، حدث ما لم يكن في حسبان وحسابات قادة الكيان ، بأنّ مدن ومناطق فلسطين المحتلة منذ العام 1948 ، تنتفض في وجههم ووجه مستوطنيهم في العديد من المدن ، في اللد وحيفا وعكا ويافا وبئر السبع والناصرة وكفر كنا وغيرهم . ووصل الأمر حد هروب المستوطنين ، وسيطرة الشباب الفلسطيني على معظم تلك المناطق ، الأمر الذي اعتبره قادة العدو الحدث الأخطر على الكيان منذ 73 عاماً ، وبالتالي هو الأخطر أيضاً من المواجهة العسكرية مع المقاومة في قطاع غزة ، بحسب المراقبين والمحللين وقادة أمنيين وعسكريين سابقين ، حيث وصف أحدهم الأوضاع الملتهبة في أراضينا المحتلة العام 1948 ، أنّ الوحش الفلسطيني داخل أحشائنا بدأ يأكلنا من الداخل . وفي تكامل وتشبيك لوحدة المقاومة ، تحركت الضفة الغربية منتصرة لبقية فلسطين ، وهي الجزء الأصيل منها ، فاندلعت المواجهات في العديد من المناطق في مواجهة حواجز العدو وتجمعاته الاستيطانية ، وأعلن شباب الضفة النفير العام ، واعتبروا المستوطنين وجنود الاحتلال أهدافاً يجب مواجهتهم . وهذا أيضاً مثّل قلقاً مضافاً لقادة لكيان ، لما تمثله الضفة من عمق حيوي باتجاه عمق أراضينا المحتلة في العام 1948 .
وفي سياق قراءة أولية في انتصار الملحمة الفلسطينية ، من تشابك مقاومتها وجغرافيتها ، من القدس وإلى مناطقنا المحتلة عام 1948 ، وقطاع غزة وصولاً إلى الضفة الغربية ، نسجل الآتي في المستويات التالية :-
أولاً مستوى المقاومة بعد مضي 7 سنوات على الحرب الأخيرة التي شنها كيان الصهيوني على قطاع غزة في تموز 2014 لمدة 51 يوم ، وصمودها وتمكنها من إسقاط أهداف تلك الحرب بالمعنى السياسي والعسكري والأمني . من الواضح أنّ المقاومة راكمت من القدرات القتالية الشيء الكثير ، ولم يقف الأمر عند هذه المراكمة بل زادت عليه المقاومة ، في تنوع تلك الوسائل والقدرات ودقتها ومدياتها ورؤوس صواريخ المتفجرة ، والمُسيّرات ، بالإضافة إلى شبكات الأنفاق ووسائل الاتصال والتواصل ، وغرف السيطرة والتحكم والقيادة . وذلك وفق إستراتيجية رسمتها قيادة المقاومة ، والتي كان من نتائجها تشكيل غرفة عمليات موحدة ضمت جميع الكتائب المسلحة في القطاع .
اليوم ومع التصدي الإسطوري لقوى المقاومة في مواجهة العدوان الصهيوني الذي استهدف مدينة القدس والمسجد الأقصى وأحياء رأس العامود وحي الشيخ جراح . نجحت قوى المقاومة منذ اللحظة الأولى من فرض هيمنتها االعسكرية ، على الرغم مما يمتلكه الكيان الصهيوني من ترسانة عسكرية لا تجيد إلاّ ارتكاب المجازر والقتل بحق الأبرياء من المدنيين في قطاع غزة ، الذين حولتهم إلى بنك أهدافها . وفي هذا السياق نسجل الآتي :-
1. نجحت المقاومة في أن تشكل من نفسها حالة إسناد حقيقي في الدفاع عن القدس وغيرها من المناطق الفلسطينية .
2. تم التشبيك بين كل أشكال المقاومة ، من العسكرية في قطاع غزة ، إلى هبة أهلنا في القدس ومناطقنا المحتلة العام 48 ، وصولاً إلى الضفة الغربية .
3. التشبيك الجغرافي وتوحيد مناطق فلسطين من بحرها إلى نهرها . كما وحدت الشعب الفلسطيني في عموم فلسطين .
4. أعادت التشبيك بين المقاومة وقضيتها الفلسطينية مع عمقها العربي والإسلامي على المستوى الشعبي في العديد من العواصم ، التي تحركت لنصرة القدس وغزة والضفة ومناطقنا المحتلة في العام 48 . وصولاً إلى دول الأميركيتين وأوربا وإفريقيا .
5. بنك أهداف المقاومة طالت كل الأراضي الفلسطينية المحتلة ، حيث وصلت صواريخها لتطال شعاع تلك الأراضي ، مستهدفةً المراكز والمواقع الحساسة داخل الكيان ، ومطاراته ومدنه ذات المكانة الاقتصادية والمالية وتحديداً في أسدود التي تصل ما تدخله من الإيرادات المالية 60 بالمائة ، وكذلك منطقة غوش دان في تل أبيب ، ذات المركز التجاري الهام . مضافاً لذلك شل المطارات والسكك الحديدية والفنادق والأماكن السياحية ، وتوقف حركة البورصة ... الخ .
6. نجاح المقاومة في تنفيذ تكتيات عسكرية عالية المستوى . وهذا ما وفّر لها الاستمرار في استهداف عمق الكيان الصهيوني .
7. أحدثت تحولاً إستراتيجياً ، لجهة كشف زيف الكيان وقوته وهيمننته العسكرية ، حيث حولته إلى كيان مهزوم على جميع الصعد والمستويات ( أوهن من بيت العنكبوت) . وبالتالي عمّقت مأزقه السياسي والعسكري والأمني ، بل وتجاوزته إلى المأزق الوجودي ككيان قد ينتهي كمشروع صهيوني على أرض فلسطين .
8. عرت أنظمة التطبيع التي هرولت لنسج علاقات وتحالفات ، وأسقطت نظرية اختراق الواقع العربي لإرغام الفلسطينيين على التسليم بالأمر الواقع للكيان الصهيوني .
9. نجاح المقاومة في معركة الوعي والرواية والصورة في مواجهة الكيان الصهيوني ، خصوصاً بعد استهداف مكاتب وسائل الإعلام الموجودة في قطاع غزة.
ثانياً: على مستوى أراضينا المحتلة عام 48 بعد 73 عاماً على قيام الكيان الصهيوني ، وما عمل عليه على مدار العقود الماضية من فرض سياسات عنصرية عبر سنه لقوانين تهدف إلى تذويب النسيج الوطني الفلسطيني ، في بوتقة مجتمع المستوطنين ، وأخره " قانون القومية للشعب اليهودي " ، بعد أن يتم كي الوعي الفلسطيني ، وثقب ذاكرته من خلال فرض روايته الزائفة بأن فلسطين أرض من دون شعب ، لشعب من دون أرض . وبالتالي ممارسة سياسة فرق تسد ، وقيامه بتوزيع السلاح حتى يحترب الفلسطينيون فيما بينهم . فقد اكتشف وعلى وقع ما شهدته أراضينا المحتلة من تحرك الشباب الفلسطيني في عموم مدننا ، في حيفا واللد ويافا وعكا والناصرة وكفر كنا وغيرهم ، من حراك واسع ضد المستوطنين الصهاينة الذين أقروا بالصدمة وبأن كل ما عملوا عليه ذهب أدراج الرياح .
وقد كان لهذا الحراك مقدماته ، حيث نفذ العديد من الشباب الفلسطيني عمليات مقاومة مسلحة ، ولعلّ من أشهرها عملية في القدس استشهد على أثرها 3 شبان من عائلة واحدة من آل الجبارين من أم الفحم .
وفي سياق هذا المستوى نسجل الآتي:
1. لا يزال الفلسطينيون متمسكون بوطنهم على الرغم من مرور 73 عاماً على اغتصابه من قبل الصهاينة .
2. التأكيد على عروبة فلسطين ، وانتمائهم الوطني والقومي رغم كل محاولات الأسرلة التي مارسها الكيان .
3. أوصل رسالة واضحة لقادة العدو بأن عليكم الرحيل عن أرضنا ، ونحن متمسكون بالقدس ونصرتها .
4. ورسالة ثانية ، بأن من تنازل بموجب اتفاقات " أوسلو " عن 78 بالمائة من أرض فلسطين التاريخية المحتلة عام 48 ، ليس لديه الحق في التنازل ، وهو لا يعنينا لا من قريب أو بعيد .
5. التأكيد على أنّ ما شهدته أراضينا المحتلة عام 48 جزء أساسي من معادلة الصراع مع الكيان ومستوطنيه ، وليس كما يحاول قادة العدو تصويره على أنها حرب أهلية ، بهدف تقزيم هذه المواجهة وهذا الصراع . ومشهد الزحف الشعبي للدفاع عن القدس والمسجد الأقصى ، إلاّ تأكيد على التشبيك مع سائر الأراضي الفلسطينية المحتلة ، والتشبيك على أنّ الصراع مع الكيان واحد أينما تواجد شعبنا الفلسطيني .
6. وضعت الكيان ومستقبله أمام سؤال ، إلى أين ؟ ، بعد بداية هزيمته على يد المقاومة . ثالثاً مستوى هبة القدس باعتراف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ، بأنّ القدس الموحدة عاصمة للكيان الصهيوني ، وبالتالي تأكيد إدارة الرئيس بايدن على هذا الاعترف ، وضع الشعب الفلسطيني في القدس أمام خيارين ، أما أو ، أما الإذعان والتسليم بذاك الاعتراف ، أو خوض المقاومة بأشكالها المتاحة .
وما الهبات المقدسية المتواصلة دفاعاً عن المدينة ومقدساتها ، إلاّ تعبير واضح على عدم الخضوع أو الاستسلام ، حيث أتت الهبة الأخيرة في شموليتها وقوتها وانخراط شبانها ورجالها ونسائها ، ومرابطتهم في المسجد الأقصى ودفاعهم عن حيي رأس العامود والشيخ جراح ، لتضع الكيان الصهيوني وقادته أمام مأزق كبير ، خصوصاً عندما تحركت المقاومة بعنوان القدس ، من خلال التأكيد على أنّها قضية أولوية في الصراع مع الكيان ، الذي يسعى ويعمل على حسم الصراع على القدس ، بالمعنى السياسي والديمغرافي والديني والثقافي والتاريخي ، بعد أن يحقق وحتى العام 2030 تقليص عدد الفلسطينيين من 350 ألف إلى 35 ألف بأحسن الأحوال ، ليصبح عدد المستوطنين فيها مليون ومئتي ألف مستوطن . وهو أي الكيان لتحقيق هدف التهويد ، يصرف على ذلك أكثر من 3 مليارات دولار سنوياً ، بينما السلطة في القدس تصرف 0,02 بالمائة فقط .
اليوم ومع هذه المواجهة المفتوحة مع الكيان لم يعد من إمكانية لدى العدو الاستفراد في القدس التي بدأ العدوان عليها ويجب أن ينتهي العدوان من هناك ، إذا ما أراد إنهاء المواجهة التي قد تتجدد إذا ما استمر هذا العدوان وتلك الاقتحامات من قبل قطعان المستوطنين .
وهنا لابد من التأكيد على أنّ المقدسيين منحازون إلى المقاومة التي استجابت لنصرتها ، وعملية الدهس الأخيرة التي نفذها شاب مقدسي من حي الشيخ جراح ضد حاجز لجنود العدو في القدس ، إلاّ دليلاً على أنّ شعبنا في القدس اختار المقاومة على الاستسلام . رابعاً مستوى الضفة الغربية بعد أن أُرغمت الضفة الغربية خلال الحروب السابقة على قطاع غزة ، الوقوف على الحياد وكأن ما يجري في دولة وبلد أخر . وذلك بسبب القبضة الأمنية الشديدة التي تنفذها أجهزة أمن السلطة الفلسطينية المتعاونة مع أجهزة أمن العدو الصهيوني ، والتنسيق اللصيق معه . مع مشهد المواجهة المفتوحة مع الكيان لم يعد من الممكن الوقوف على الحياد أمام مشهد المجازر التي يرتكبها الكيان أولاً ، وتلك الانجازات التي حققتها المقاومة في مواجهتها ثانياً . لذلك تحركت الضفة الغربية انتصاراً ونصرة للقدس وغزة ، حيث شهدت مواجهات في معظم المدن التي ترابط أمامها الحواجز العسكرية ، فسقط 15 شهيد من أبناء شعبنا .
وبذلك التحمت الضفة مع بقية أخواتها وإخوانها من جغرافية وشعب . وهذا ما كنا نتطلع إليه ليشكل بداية صحيحة لإسقاط رؤية الجنرال الأمريكي دايتون الذي عمل على خلق الفلسطيني الجديد ، ليأتي الرد بأنّ الفلسطيني الجديد ، هو الفلسطيني المقاوم والمنتفض والمنتصر لقضيته وعناوينها الوطنية .
يتبع ...