أقلام الثبات
508 سنوات بين عامي 1492م و2000، لم يسجل فيها التاريخ العربي والإسلامي أي نصر مبين أو نوعي.
عام 1492 م سقطت غرناطة في الاندلس، وسلمها الملك أبو عبد الله محمد الصغير إلى فرديناند الخامس، وخلال المفاوضات لتسليم أجمل مدن العالم بشوارعها النظيفة وميادينها الرائعة وحدائقها الغنّاء، ومبانيها ومرافقها الجميلة، للجيش القشتالي، كان سلوك أبو عبد الله الصغير ومساعده الوزير يوسف بن كماشة مريبا، لأنهما قدما منفعتهما الشخصية على المصالح العامة، فكتبا الى الملكين الكاثوليكيين خطابا يؤكدان فيه إخلاصهما وولاءهما واستعدادهما لخدمتهما حتى تتحقق رغباتهما، وفي الوقت الذي كانت تجري فيه مفاوضات التسليم، عُقدت معاهدة سرية أخرى، مُنح فيها أبو عبد الله وأفراد أسرته ووزراؤه منحًا خاصة بين ضياع وأموال نقدية.
ما كادت تذاع أنباء الموافقة على تسليم غرناطة حتى عمّ الحزن ربوعها، واكتست الكآبة نفوس الناس، واشتعل الناس غضبا حين تسربت أنباء المعاهدة السرية، وما حققه السلطان وحاشيته من مغانم ومكاسب رخيصة، فسرت بين الناس الدعوة إلى الدفاع عن المدينة، فاحتج أهل غرناطة على استسلام أبى عبد الله وهددته بالثورة فخشي أبو عبدالله الصغير من تفاقم الأحوال وإفلات الأمر من بين يديه، فارتكب الخيانة حتى الثمالة باتفاقه مع ملك قشتالة على تسليم المدينة قبل الموعد المحدد في الثاني من كانون الثاني 1492، فدفع بمفاتيح المدينة إلى فرديناند، وركب مع أقاربه وفرسانه الخمسين، وسط صفوف القشتاليين، إلى إمارته الجبلية الصغيرة التي كان عليه أن يحكمها تابعاً لقشتالة، ومن فوق الصخور الشماء التي عبر عليها، ألقى نظرة أخيرة على المدينة الرائعة التي فقدها، والتي كانت تسمى آخر زفرة للعربي وبدأ النحيب فأنبته أمه على بكائه قائلة: "أبكِ كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال".
هكذا كانت خيانة الملوك والتي ماتزال مستمرة، تحاول ان تطفئ حتى ضوء الشمعة فتابعوا سلسلة نهج "الملوك العرب" في التاريخ الحديث منذ بداية القرن العشرين حتى "صفقة القرن "، وستجدون سجلات من العار، دون ان يعني ذلك ان السجل العدلي للأخرين من رؤساء وسياسيين وزعماء ابيض نقياً، فمن ينسى خيانة السادات واتفاقات أوسلو ووادي عربة وهلم جرا.
وبين عامي 1948 و2000 هناك 52 عاماً، حفلت بالدم والدموع والاحلام والآمال.. وايضا بالخدع والخيانات والهزائم وبأحلاف استعمارية بعضها _ لا تستغربوا بتاتا_ نسخة قديمة عن "صفقة القرن " الترامبية.
من مبدأ ترومان وحلف الدفاع المشترك في منطقة الشرق الأوسط في اذار 1947، الذي كان هدفه توحيد وسائط الدفاع في الشرق الأوسط ضد ما أطلق عليه (الخطر الأحمر)، وهو في حقيقته توفير ظروف الحياة للكيان الذي كان يحضر له في فلسطين، وجعله من نسيج المنطقة تمهيدا لمده من قبل الغرب والأميركي بكل أسباب القوة لتكون له كل إمكانية السيطرة، وليكون القاعدة المتقدمة للاستعمار والشرطي الجاهز دوما للبطش بهراوته على المنطقة.
وتكررت نسخ الاحلاف الاستعمارية، فكان حلف بغداد هو أحد الأحلاف التي شهدتها حقبة الحرب الباردة، حيث تم إنشاؤه عام 1954 للوقوف بوجه الخطر الأحمر (أي الشيوعي) في الشرق الأوسط، وكان يتكون إلى جانب المملكة المتحدة من العراق وتركيا وإيران وباكستان.
اما الولايات المتحدة الأمريكية فهي صاحبة فكرة إنشاء هذا الحلف وقد وعدت بتقديم العون الاقتصادي والعسكري للأعضاء، ولكنها لم تشارك فيه بشكل مباشر وإنما وكلت بريطانيا بالقيام به. وكان من أبرز أهداف هذا الحلف أيضا توفير الطمأنينة للدولة العبرية، لكن قيام الثورة الناصرية في مصر عام 1952 واطلاقها رياح التقدم والتحرر من الاستعمار أحبط هذا المشروع فقامت ثورة 14 تموز في العراق واطاحت بالنظام الملكي في بلاد الرافدين وبحلف بغداد الذي قام على إثره ومن بقاياه حلف السنتو.
تعددت اشكال الاحلاف التي حضَّرت وأعدَّت للمنطقة وكان من أبرزها في ستينيات القرن الماضي "الحلف الإسلامي" الذي دعا اليه الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز بعد هزيمة حزيران 1967.
الحلف الإسلامي هو حلف كان قد دعا إليه الرئيس الاميركي دوايت آيزنهاور بداية الامر سرا في 1957، وكانت أولى مهامه غزو سوريا. وناقشها مع كل من الملك سعود والرئيس التركي جلال بايار. إلا أن انقشاع الأزمة السورية آنذاك وسقوط حلف بغداد أبقت الفكرة طي الكتمان. ثم عاود الملك فيصل بن عبد العزيز، عام 1965، تبني فكرة الحلف الإسلامي، علناً. ولم يوافق على الانضمام إليه سوى إيران الشاه والأردن، فقد رؤي على أنه محاولة لتوسيع حلف بغداد الموالي للغرب، ضد المد الثوري في العالم العربي، إلا أن نكسة 1967 ثم حريق المسجد الأقصى، عام 1969، أديا إلى قيام نسخة من ذلك الحلف تحت اسم منظمة العالم الإسلامي عام 1970.
في أواسط الستينات من القرن الماضي اقترن النهج السياسي الخارجي المعادي للإمبريالية الذي اتبعه عدد من البلدان العربية بإصلاحات داخلية، مما عمق نهج معاداة الامبريالية. واغتنت الفكرة القومية السابقة بأيديولوجية التحولات الاجتماعية والبحث عن بنى جديدة، بنى وطنية ديمقراطية. وكانت مصر الرائدة على هذا الطريق في الستينات.
وأصبحت السعودية التي صارت منذ بداية ستينيات القرن العشرين في قلب الاحداث السياسية في الشرق الأوسط، المركز الرئيسي لمجابهة مصر عبد الناصر. وشرعت الطبقة الحاكمة السعودية، في محاولة لتقويض نفوذ مصر وسورية وغيرهما، بالبحث عن سبل واساليب لرص صفوف البلدان ذات الانظمة المحافظة "المعتدلة". وكانت فكرة دالاس حول انشاء احلاف عسكرية تساهم فيها الدول الغربية قد بلغت من سوء السمعة دركا سحيقا بحيث لم تجر حتى محاولة بعثها.
طرح الملك فيصل بن عبد العزيز خطة تأسيس "الحلف الإسلامي" أملاً في جعله نقيضاً للجامعة العربية. وحظيت فكرة فيصل بتعاطف واشنطن ولندن اللتين كانتا تقليديا تعتبران الدين حائلا دون انتشار الافكار الاشتراكية والتحررية.
زار الملك فيصل إيران في كانون الأول 1965. واثناء مفاوضاته هناك اقترح لأول مرة علنا عقد مؤتمر قمة إسلامي وأيد الشاه الفكرة. وفي 31 كانون الثاني 1966 أعلن الملك فيصل في عمان اثناء زيارته الرسمية للأردن أنه سوف تشكل لجنة اسلامية للتحضير لمؤتمر قمة إسلامي.
جابه فيصل معارضة شديدة من جميع الدول الإسلامية، منذ الخطوات الاولى. فقد أثار تأييد فكرة "الحلف الإسلامي" من قبل الشاه، عدو عبد الناصر وصديق اسرائيل، مخاوف حتى لدى العديد من الملوك والرؤساء العرب.
في 22 شباط 1966 اعلن الرئيس جمال عبد الناصر في خطاب القاه باجتماع جماهيرى في جامعة القاهرة ان الامبريالية والرجعية تقومان بتأسيس الحلف الاسلامي، وانه على غرار حلف بغداد والأحلاف السياسية السابقة، موجه ضد حركات التحرر الوطني.
شجب فكرة "الحلف الإسلامي" بصيغ مختلفة كل من الجزائر والجمهورية العربية اليمنية والعراق وسورية والكويت والعديد من البلدان الاسلامية في آسيا وافريقيا، وعدد من المنظمات العربية والدولية. وتنصل من الفكرة حتى حلفاء ايران في حلف السنتو، فترتب تأجيلها. وحينذاك لجأت السعودية إلى عقد مؤتمرات اسلامية على مستويات مختلفة، وخصوصا بعد حرب حزيران 1967.
لم تتوقف سلسلة الهزائم والتراجعات العربية، خصوصا بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، وإن كان قد تحقق اول نصر عربي في حرب تشرين 1973، لكن خيانة السادات أحبطت نتائج هذا الحرب، وسرعان ما تكشف النهج الخياني للسادات باندفاعته عام 1977 لزيارة القدس المحتلة ومن ثم توقيعه اتفاقية الكامب عام1979
لتكر سلسلة التنازلات، فكانت مبادرة فهد بن عبد العزيز في قمة فاس عام 1981 للسلام التي رفضت في حينه، لكنها اقرت في السنة التالية 1982 بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان.
بيد انه في لبنان بعد ذاك الاجتياح، كان يولد الأمل والرد الحقيقي باندلاع المقاومة وملاحقة العدو بدءا من سيدة العواصم بيروت، فكبر الحلم وسطرت اعظم البطولات وهزمت كل مشاريع العدو واتباعه من اللبنانيين، فحطم اتفاق 17 أيار وتدحرجت كرة الثلج المقاومة لتعطي النصر العظيم في 21 أيار 2000 باندحار العدو وعملائه بلا قيد او شرط، وليتكرس بقرار رسمي في مجلس الوزراء الذي كان يرأسه ضمير الوطن الكبير البروفيسور سليم الحص وفي عهد الرئيس المقاوم إميل جميل لحود يوم 25 أيار من كل عام عيد المقاومة والتحرير. وهما كانا اول من زار الجنوب المحرر، حيث كان رئيس البلاد اميل لحود في 24 أيار يجول في المناطق الجنوبية التي اندحر منها العدو، وبعده فورا كان الرئيس الحص بين الناس في قرى وبلدات الجنوب.
... وبعدها كان قائد المقاومة وسيدها السيد حسن نصر الله في القصر الجمهوري يستقبل بشكل استثنائي من قبل الرئيس المقاوم العماد إميل لحود ، فكان ذلك ايذانا بانتهاء عهود أبو عبد الله الصغير الذي استمر 508 سنوات ضاغطا على الصدور. فقد ولى زمن الهزائم وبدأعصر الانتصارات.
25 أيار 2000 ليس كمثله يوم (بالإذن من الصديق الزميل واصف عواضة).