أقلام الثبات
لعل أصدق تعبير عن وضع المعارك في فلسطين المحتلة، ما ورد على لسان أكثر من مسؤول صهيوني وعلى ألسُن المستوطنين المذعورين، أن "إسرائيل" تدفع 50 ألف دولار ثمن كل صاروخ يعتلي القبَّة الحديدية لإصطياد صاروخ فلسطيني كلفته 300 دولار، هذا إذا نجحت باعتراضه وإسقاطه، وفي بحثهم عن سبب فشل إسقاط كل الصواريخ التي تنطلق من قطاع غزة، صرَّح بعض ضباط جيش الإحتلال، أن كثافة الرشقات الصاروخية تُضلل رادارات تلك القِبَة الحديدية، ما يدفع بالمقاومة الفلسطينية للعمل على هذا الأساس في اصطيادٍ للأهداف في غفلةٍ عن الرادارات التائهة.
لن نخوض أكثر في التقنيات، كما لن نتطرَّق الى مصادر صواريخ المقاومة الفلسطينية في قطاعٍ محاصر من العدو، ولا يُفتح عليه معبر رفح المصري سوى لحاجات إنسانية استثنائية، ومع غياب دور الأنفاق التي عوَّمتها مصر بالمياه منذ سنوات، يبقى دور الصناعة المحلية قائماً، سيما وأنها بدأت في ورش حديد متواضعة وبات تطويرها على عاتق مهندسين فلسطينيين، وخلاف هذا التحليل يبقى من نسج الخيال، سيما وأن قطاع غزة، نتيجة الحصار الصهيوني، يعيش الإختناق الإقتصادي والصحِّي والإجتماعي قياساً لمساحته البالغة 360 كلم مربع، وسكانه البالغ عددهم مليوني شخص يُعانون من أعلى نسبة بطالة في العالم، ومن أبسط مقومات الإستمرار على نمط انتظار المَن والسلوى من العرب، والرأفة من أكثر نظام صهيوني جائر.
قد يعتقد البعض أن النصر في الحروب هو للأقوى عدَّة وعتاداً، لكن الوضع في مواجهة الكيان العنصري اليهودي مختلف، لأن إصابة مستوطن بمفرقعة أو سكين تُرعِبُ مستوطنة بأكملها، وإنزال المدنيين الى الملاجىء مسألة باتت سهلة على المقاومة الفلسطينية عبر رشقة صواريخ من قساطل ورشة حدادة، فكيف بالحري متى بلغت هذه المقاومة مستوى تطوير قدراتها سواء عبر طائرة مُسيَّرة أو صاروخ عابر للقبب، والفلسطينيون مُنتصرون طالما هم قادرون على بثّ الرعب، في قلوب مستوطنين اعتادوا سابقاً على ارتياد الشواطىء ونظامهم يَشِنُّ حروبه على الداخل العربي، ونجحت المقاومة اللبنانية عام 2006 والمقاومة الفلسطينية عام 2014 في كسر هذا العُرف، وبات إيذاء الجسم الديموغرافي الإستيطاني والإقتصادي اليومي هو السبيل الى النصر.
هذا النصر الذي توهمه نتاتياهو منذ أيام لصالحه، أجَّل الإعلان عنه، رغم أنه بحاجة لإستثمار ضرباته المُجرمة للبشر والحجر في قطاع غزة بمواجهة خصمه يائير لبيد زعيم "هناك مستقبل" الذي يحاول تشكيل حكومة جديدة بعد فشل نتانياهو في ذلك، وإلا فإن الأمور تتجه الى انتخابات نيابية خامسة، والشارع الإسرائيلي المُرتعد غير جاهزٍ لهذا الأمر، تماماً كما الحال بالنسبة للشارع الفلسطيني الذي تمّ تأجيل إنتخاباته التشريعية بسبب قيود الإحتلال على مشاركة المقدسيين فيها.
وبصرف النظر عن المساعي الدولية لتهدئة الأمور، والعجز العربي عن إنقاذ فلسطين منذ نكبتها قبل 73 عاماً، ومؤامرات جماعة التطبيع المشبوه مع الكيان الغاصب، فإن "إسرائيل" خسِرت الحرب على ثلاث جبهات داخلية مع الفلسطينيين مهما كانت نتيجة هذه الحرب على المستوى العسكري:
- خسرت "إسرائيل" أمام المقاومة العسكرية في غزة، بمجرَّد أن الحزام السكاني اليهودي حول قطاع غزة لن يعرف السلام الى الأبد ما لم ينعم به الفلسطينيون، والمسألة بسيطة: توازن رُعب بأبسط وسائل الإيذاء الأمني وتعطيل الحياة اليومية.
- خسرت "إسرائيل" عرب 48، الذين أدركوا من خلال مواجهاتهم الحالية مع الإرهابيين من المستوطنين اليهود، أن نظام فصل عنصري كهذا لا يُمكن أن يضمن لهم كرامة حياة حتى ولو كانوا يحملون هوية إسرائيلية.
- وخسرت "إسرائيل" ولاء الحمائم في الضفة الغربية، الذين ما زالوا يُصدِّقون منذ "أوسلو" أن هذا الكيان المُحتلّ جاهز للتفاوض على حلّ الدولتين، وشوارع رام الله تشهد على انتفاضة ذاتية الآن، سيما وأن صفقة القرن المشبوهة تتجه لمزيد من القضم في الضفة ما لم تُواجَه بالحديد والنار كما هو حاصل حالياً رغماً عن كل القبب الحديدية...