أقلام الثبات
يصر الموفدون الفرنسيون كلما زاروا لبنان، كما موفدو الدول النافذة الأخرى، على تذكير اللبنانيين أن وطنهم قاصر وضعيف رغم مرور مائة عام على ميلاده على يد القابلة غير القانونية فرنسا.
فما بين الحديث عن محاولة إحياء المبادرة الفرنسية للمساعدة في تشكيل حكومة لبنانية تخلف حكومة حسان دياب المستقيلة، أو لإنقاذ لبنان من أزمته الإقتصادية المستعصية، تخرج لهجة الفرنسيين المتعالية والمستهينة بالساسة اللبنانيين، بل والمحقرة لهم، لا لتذكرنا بمدى إنحطاط ودونية سياسيينا في قبولهم أن يخاطبوا بمثل هذه اللهجة، بل كذلك، بأن الفرنسي يصر على التعاطي مع لبنان بعقلية المندوب السامي الإستعماري، الذي دخل لبنان بقوة جيوشه وفرض ما تتطلبه مصالحه ومصالح من عمل في خدمته من اللبنانيين، فأنشأ كيانا لم يتمتع يوماً بمواصفات الوطن ومقدراته. وأقام دولة يجمع اللبنانيون اليوم أنهم لا يشعرون بوجودها ولا تشعرهم أنها معنية بهم وبحياتهم ومصالحهم. فيما المستعمر الذي نال لبنان منه إستقلاله المفترض، ما يزال يعتبر لبنان "جمهورية موز" سائرة في فلكه.
وفي المقابل يسود صمت القبور لجهة الذين طالما افتتنوا بما يسمونه سيادة واستقلال. وأي سيادة واستقلال ووزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان، يستدعي سعد الحريري إلى قصر الصنوبر لمقابلته، على عكس زيارته لرئيسي الجمهورية ومجلس النواب في مقارهم. كما أنه يتجاهل كالعادة، رئيس الحكومة المستقيلة؛ وكأن من صلاحياته تحديد من هو المسؤول في لبنان ومن هو غير المسؤول.
والأمر نفسه، على مرارته، يراه اللبنانيون عندما يتعاطى الموفدون الأميركيون بمنطق الفرض والإملاء على الطاقم السياسي الحاكم في لبنان. وآخر هذه الإملاءات أوامر وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل، الذي يغادر منصبه هذه الأيام، بقوله للمسؤولين اللبنانيين، خلال زيارته الأخيرة لهم، بأن عليهم التفاوض مع العدو "الإسرائيلي" على ترسيم الحدود البحرية، على «خط هوف» أو يخسرون كلّ شيء. فهل بات من حق الأميركي رسم حدود لبنان بما يلبي المطامع "الإسرائيلية". وهل حدود لبنان وثرواته و"سيادته واستقلاله" لعبة بأيدي الأميركي وسواه، يقرر فيها وفق رؤاه ومصالحه؟
ولا يمكن للمتابع أن ينسى أن الأميركي يتصرف في لبنان بأسوأ من أسلوب المندوب السامي الفرنسي، فهو يتمتع بوجود عسكري في لبنان، من خلال "تسهيلات" يستخدمها في قاعدة حامات الجوية. وله وجود ظاهر في قاعدة رياق وفي مطار بيروت وكل مواقع قوات النخبة العسكرية اللبنانية، من خلال المستشارين والضباط وغيرهم. مقابل تقديمه خردة ثكناته العسكرية في المانيا وأوروبا كسلاح للجيش اللبناني، بما لا يشكل خطراً على الكيان "الإسرائيلي" ولا يسبب إزعاجاً له. ورغم ذلك لا ينفك المعنيون الأميركيون بشؤون المنطقة، يشهرون إنحيازهم لمصالح العدو الصهيوني وعدائهم لكل من لا يخضع لمنطقه العدواني والتوسعي. ويواصل أذناب الأميركي في الداخل اللبناني الصمت والخنوع أمام هذه السياسة العدوانية، التي تتبنى كل ما يريده عدونا الصهيوني؛ وترفض وتحارب كل ما يرفضه.
ولا يقتصر هذا الإستضعاف والإستخفاف على أسلوب البعيد الأجنبي، بل هو لغة التعامل مع مسؤولينا من قبل بعض القريب والأخ والشقيق، مثل حكام المملكة السعودية، التي تقلد الأميركي في كثير من خطواته، فهي حسب حكامها في تنسيق إستراتيجي معه، لذا وكما للإدارة الأميركية قوانينها لمعاقبة لبنان المقاوم وحصاره لإجباره على تلبية المطامع "الإسرائيلية"، فلحكام المملكة السعودية أيضاً قوانينهم في حصار لبنان إقتصادياً، في تكامل وذيلية مع القرارات الأميركية. وآخر خطوات إستضعافها للبنان وتجبّرها عليه فرضها عقوبات إقتصادية تؤذيه، تمنع فيها استيراد منتجاته الزراعية والغذائية، أو تلك المماثلة التي تمر عبره، بحجج تبين أنها واهية. وأنها عقوبات سياسية قبل أي شيء آخر، تنطلق من فوقية ترى اللبنانيين حكاماً ومحكومين مجرد متسولين ومعتاشين يطلبون المال والرزق ولو من رمال الصحراء.
كما يتذكر اللبنانيون أن سورية التي تشكل المعبر البري الوحيد للبنان نحو الداخل العربي، كانت أيام حكوماتها في العقود السابقة، تضع "خشبة" وسط الطريق على الحدود، كلما نشب لها خلاف مع إحدى الحكومات اللبنانية، فتقفل الحدود ويحاصر لبنان من كل معابره البرية، على إعتبار أن المعابر مع فلسطين مقفلة بسبب إحتلالها من قبل الغزاة الصهاينة.
ولو عدنا إلى الداخل، لوجدنا أن صفات القصور والإستضعاف بارزة في الدولة والكيان اللبنانيين، في كل نواحي الحكم والحكومة. وتكفي دليلاً فضيحة سرقة أموال المودعين اللبنانيين في البنوك اللبنانية، بحجة أن المصارف سلفتها للحكومات المتعاقبة، التي صرفتها على سرقاتها وفسادها ورشوتها لأتباعها، لكي يعيدوا إنتخابها كل أربع سنوات. وأن المصارف، حسب جمعيتها، ستعيد هذه الأموال لأصحابها عندما توفي الدولة ديونها للمصارف. وأي ديون تم صرف القليل منها على بنية تحتية مهترئة وعلى مواطنين باتوا فقراء وجوعى، بفعل سياسات تحالف زعماء الطوائف وأصحاب المصارف، الذين هربوا أموالهم الشخصية إلى خارج لبنان وتركوا الناس أسيرة خوفها من ثورة تشعل حرباً أهلية، لأن زعماء الطوائف سيقاتلون بلحم وأرواح اتباعهم، دفاعاً عن ثرواتهم ونفوذهم وإقطاعاتهم السياسية والدينية. فأي لبنان هذا الذي يغشون شعبه بإمكانية إحيائه أو إنقاذه. بل أي بلد هذا الذي يهجّر فيه حكامه أجياله الشابة، إلى بلاد الله الواسعة، بحثاً عن فرص العمل ومصادر الرزق.
هذا اللبنان، القاصر والمستضعف لم يعد يملك إمكانية الحياة. وبات على اللبنانيين البحث عن شكل آخر لوطن يؤمنون به ويؤمن لهم مقومات العيش بكرامة، وفق متطلبات العصر وما يقدمه للعقول من فرص للإبداع لتنتج ما يكفيها. ولبنان يذخر بالعقول والكفاءات التي يدمرها نظام الفساد وتحالف الفاسدين.