أقلام الثبات
هو خطأ في الحسابات وقعت به معظم دول العالم، التي كانت تتوقَّع منذ نحو عامٍ ونصف العام بقاء دونالد ترامب في البيت الأبيض لولايةٍ ثانية، وبحجم الرهان على بقائه جاءت تداعيات رحيله، لأن المتغيرات في السياسة الأميركية مع جو بايدن تتوالى، ليس لأن بايدن من حمائم أميركا بل لأن الصقر ترامب قد "نتَّف" ريشه في المغامرات و"نَتَف" معه أميركا على المستوى الداخلي، إقتصادياً وصحياً واجتماعياً، وباتت أعجز من أن تستكمل أية مغامرة، بدءاً من كوريا الشمالية والصين ووصولاً الى أوروبا والشرق الأوسط، ولعل السعودية من أكثر الدول تأثراً بالرهان الخاسر، نتيجة انهيار الخيار الأميركي من صنعاء وطهران وانتهاءً بدمشق.
إطلالة محمد بن سلمان الأخيرة للحديث عن إنجازات السنوات الخمس الأولى من رؤية 2030، كانت التمهيد للتكويعة السعودية، واللهجة المُسالِمة لبن سلمان تجاه اليمن وإيران، هي نتاج الهزيمة النكراء للمملكة في اليمن، والتي زاد من حدَّتها قرار الكونغرس بتجميد بيع بعض الأسلحة إليها على خلفية عدوانها من جهة، وربط انتهاكها لحقوق الإنسان من جهة أخرى، فيما جاءت الصفعة الإيرانية للمملكة أمضى وأقوى، عندما رفضت طهران إشراك الرياض بأية مباحثات دولية مع دول (خمسة زائد واحد) بشأن الملف النووي الإيراني، ودَعَتها للجلوس الى طاولة مفاوضات إقليمية.
ومع انتقال مباحثات الملف النووي الإيراني لمرحلة رفع العقوبات عن إيران وعودة أميركا الى هذا الإتفاق بضغط أوروبي وصلابة إيرانية، يبدو موقف محمد بن سلمان مُحرِجاً جداً لقافلته التي بدأت طلائعها بالوصول الى بوابة دمشق، في محاولة لإصلاح العلاقات وإعادة فتح السفارة السعودية في العاصمة السورية، مع مطالبة سعودية صريحة بعودة سوريا الى الجامعة العربية، وتحديداً خلال القِمَّة العربية المقبلة المُزمع عقدها في الجزائر.
وإذا كانت القافلة السعودية تنتظر الكلأ على بوابة دمشق، فإن الثمن باهظٌ باهظ، وربما يوازي كل الدماء السورية التي هُدِرَت في ما يُسمَّى "الربيع العربي"، وكل دموع المُهجَّرين والمُهاجرين، وكل البنى التحتية والمرافق التي دُمِّرت، ومصافي وآبار النفط التي استُنزِفت، والمصانع السورية التي تم تفكيكها وبيعها خردة للأتراك من طرف المجموعات الإرهابية التي دعمتها مختلف الدول الخليجية.
الثمن باهظٌ باهظ، لأن السعودية لا تحمل في يديها وِزرَ ما ارتكبته في الداخل السوري فحسب، بل هي تحمل على كتفيها ارتكابات ترامب التي باركها النظام السعودي، بدءاً من ضمّ الجولان المحتل مروراً بصفقة القرن وانتهاء بكل عمليات التطبيع مع الكيان الصهيوني وكانت بصمات المُباركة السعودية واضحة فيها.
لا عودة العلاقات السعودية مع سوريا تُعيد ما خسرته سوريا من البشر والحجر، تماماً كما لن يُعيد وقف العدوان على اليمن ويلات حرب التحالف الأرعن على ذلك البلد، لكن عودة "الإبن الضال" السعودي الى رشده والى موقعه العربي ليست سهلة أيضاً، وعليه أن يخلع خارجاً عباءته المُلوَّثة بكل الإرتكابات ولا بأس لو دفع ثمن الكلأ مادياً ومعنوياً وسياسياً، هو الذي دفَّع سوريا والعراق واليمن وإيران أثمان البقاء في معركةٍ وجودية انتصر فيها الحقّ وزُهِق الباطل... .