أقلام الثبات
بات القضاء اللبناني قضية رأي عام. وبات الحديث عنه على كل شفة ولسان.
ليست مشكلة القاضية غادة عون هي أولى القضايا التي أثارت اللغط حول دور القضاء اللبناني. كما لم تكن قضية القاضي محمد مازح الذي أحيل على التفتيش القضائي، لأنه تجرأ ومارس سلطته لوقف تدخل السفيرة الأميركية في الشؤون الداخلية اللبنانية، أولى القضايا التي إستفزت قسماً من الشعب اللبناني، فأعلن إستنكاره لخضوع أعلى سلطة قضائية (مجلس القضاء الأعلى) للمحاباة السياسية ولنفوذ السفارة الأميركية. والأمر نفسه في قضية الإفراج عن العميل عامر الفاخوري وتسليمه للسفارة الأميركية. بل أن الأنظار كثيراً ما توجهت متسائلة عن دور القضاء في كثير من القضايا، التي غاب عن أن يكون نصير المواطنين فيها والضعفاء منهم تحديداً، إلى أن جاءت تحركات النائبة العام الإستئنافية في جبل لبنان غادة عون، لتفجر كل هذه المواقف والتساؤلات دفعة واحدة، قد تكون ظالمة للقضاء في جانب منها، لكنها مصيبة في القول أن وضع القضاء ليس بخير. وبالتالي تجب المطالبة والدعوة لإصلاحه وإعطائه الإستقلالية عن السياسيين. وكذلك تنقيته من الشوائب التي يعرفها أهل القضاء قبل غيرهم.
القضاء أوجدته الدول والسلطات ليحكم بالعدل ويحاكم المرتكبين والخطأة. لكن أن يصبح مقدراً للقضاء اللبناني الوقوف في قفص الرأي العام متهماً بالتقصير في ممارسة دوره، أو بتسييس هذا الدور، فهي كارثة تصيب الدولة والشعب اللبناني، الذي يفتقد النصير والمعين في وجه تحالف ظالم يضم زعماء الطوائف وأصحاب المصارف وكبار الأثرياء، نهب البلد وأفرغ خزينة الدولة واستولى على مدخرات اللبنانيين في المصارف وهرب جزءاً منها إلى الخارج. وأعلن في الفم الملآن أن برنامجه متواصل لبيع أملاك الدولة ومؤسساتها، ليستكمل بريعها سرقاته وفساده، فأين القضاء من كل ذلك، من دون أن يعني ذلك التشكيك بكل القضاء، الذي بينت المراحل أنه يذخر بالشرفاء والشجعان وأصحاب الضمير، الذين يضحون بمصالحهم الشخصية في وجه تسلط السياسيين وتجبرهم وقدرتهم على معاقبة كل من يعارض رغباتهم.
لسان حال اللبنانيين يلهج منذ عقود: لو لم يكن الفاسدون والمرتكبون في أعلى مراكز السلطة والحكم، مطمئنين إلى أن القضاء غائب عن دوره، هل كان اللعب بالدولار وإفقار اللبنانيين قد تم في ثمانينيات القرن الماضي. وها هي اللعبة المؤذية ذاتها يكررها الفاسدون ذاتهم، أو من خلفهم في مناصبهم وأدوارهم. واللبناني المسكين ينظر يمنة ويسرة يفتقد صوت الحق الهادر بالحكم العادل والحاسم لوقف هذه الجرائم بحق اللبنانيين؟
بل أن المواطنين وتحديداً أهل العاصمة بيروت كثيراُ ما تساءلوا عن موقف القضاء ودوره في سلبهم أملاكهم ومصدر أرزاقهم لصالح شركة "سوليدير"، التي بينت السنوات الماضية أنها مشروع شخصي للإثراء بقوة القانون وبحراسة أجهزة الدولة، على حساب الناس وعلى حساب خزينة الدولة ومداخيلها قبل كل شيء. والأمر نفسه في قضية الأملاك البحرية والنهرية. وفي صفقات المتعهدين غير الطبيعية، فهل يعقل أن تأهيل نفق سليم سلام يكلف عشرة ملايين دولار، في حين أن إنشاء هذا النفق ربما يكلف المبلغ ذاته، أو أقل منه. فأين القضاء من مثل هذه الأحداث، حتى لا نقول أين القضاء من إعتراف زعيم سياسي بأنه فرض خوات وتعدى واستولى على أموال وأملاك مواطنين، لم يجدوا من ينصرهم في وجه تجبره.
صحيح أن القاضية عون، من وجهة نظر البعض تخطت في أسلوبها بعض الشكليات في ملاحقتها لمن يعتبرهم اللبنانيون مهربي اموالهم إلى الخارج. لكن إذا كان المجرم مدعوماً ومحمياُ ويتغطى بشكليات قانونية، هل على القاضي أن لا يعدم وسيلة لجلبه إلى قفص المحكمة وفرض حكم العدالة والقانون عليه؟
كان القضاء اللبناني وفق السائد من القوانين والأعراف، فوق النقد وخارج الجدال السياسي، لكن عندما ينشر القضاء نفسه غسيله فوق أسطح الحمايات السياسية والطائفية، فإن نظرة اللبنانيين تتبدل تجاهه. والحذر من تناوله بالنقد أوالتأييد، يتراجع ويتراخى. خصوصاً أن كثيراً من اللبنانيين يرون أن تصرفات بعض السلطات القضائية تجاه القاضية عون، هي حماية للذين أفسدوا وأهدروا مال الدولة وأموال اللبنانيين المودعة في المصارف. فكل الموبقات والجرائم المالية التي ارتكبها رياض سلامة والتي فتحت ملفاتها في سويسرا وغيرها، لم تجد لها مكانا في إهتمامات القضاء اللبناني. وكل ما يثار عن دور شركة مكتف في لبنان والخارج، لم يستحق التحقيق لتبرئة الشركة وصاحبها، أو لمعاقبته وزجه في السجن وتحصيل حقوق الناس منه. وكذلك، اليس من واجب القضاء التحقيق في قروض الإسكان الكبيرة التي حصل عليها الرئيس نجيب ميقاتي (الملياردير) ومن هو محسوب عليه. فربما يكون الرجل مفترى عليه. وربما يكون قد إستغل سلطته واستولى على حقوق محدودي الدخل في قروض الإسكان. والأمر نفسه يصح حول ملف المواد المدعومة، التي لا يصل منها إلى المواطن إلا النذر اليسير. حتى أن وزير الصناعة لا يخفي عجزه عن ضبط سوق الأسمنت، لأن أصحاب المعامل هم من كبار الزعماء والسياسيين ومن مرجعيات روحية وزمنية. فمن يحاكم التاجر الفاجر والمهرب السارق، أم أن القضاء قوي فقط على الضعفاء والفقراء. أما ترك الأمور على غاربها فهي دعوة للناس لأن يأخذ كل واحد منهم حقه بيده. وهذا خطر ينذر بشرور على البلاد والعباد.
هذه القضايا نماذج عما يرى اللبنانيون أن القضاء يتجاهل التدخل والفصل فيها. وما دامت القاضية عون قد فتحت ملفات بعضها، فإن الفيصل في موقف القضاء هو إستكمال فتح هذه الملفات؛ والتعاطي معها بشفافية وإعلان حكم القانون والعدالة مما يعيد للقضاء دوره وحصانته ويخرجه من دائرة القيل والقال.