أقلام الثبات

ليس مستغرباً وصف شبكة الفساد الحاكمة في لبنان بمختلف الأوصاف المنكرة. فتجاهلها لما يتعرض له الشعب اللبناني على أياديها وبفعل جشعها ونهبها للمال العام؛ وبتحالفها مع أصحاب المصارف وكبار الأثرياء، الذي أنتج سرقة لأموال المودعين في المصارف وتهريب ما تبقى منها إلى الخارج، دمر حياة شعب بأكمله؛ وأودى بمستقبل جيل من الشباب، بعد أن فقد إيمانه بوطنه وبإمكانية العيش فيه.
أجيال الشباب اللبناني حيثما نظرنا إليها، باتت أسيرة خيارين أحلاهما مرّ، باعتبار البطالة والتسكع في الشوارع ليست خياراً: إما الإستزلام لهذا المتزعم أو ذاك؛ ونسيان الشهادات والكفاءات ورميها في مكبات النفايات، مقابل الحصول على عمل أو وظيفة يسد راتبها الرمق بالكاد، باعتبار أن الثقة والولاء يتقدمان عند زعماء السياسة والطوائف على الخبرة والكفاءة. وإما الإتجاه إلى مجاهل الدنيا، بحثاً عن بصيص ضوء وعن فرصة عمل في بلاد الإغتراب، تغني صاحبها عن التبعية لهؤلاء الظالمين؛ يعمل فيها الشاب وفق كفاءته وبمستوى الشهادات العلمية التي أضنى النفس وسهر الليالي للحصول عليها.
هكذا هو حال الشباب اللبناني، الذي بدأت الإحصاءات تشير إلى أرقام صادمة عن أعداده من طالبي الهجرة والساعين  نحو "فيزا"، في بلد ووطن بديل يحترم الإنسان ويقدم الكفاءة على الإستزلام ولا يسرق الحاكم فيه تعب وجهد أهله وأبناء قومه.
جرب اللبنانيون وفي مقدمهم جيل الشباب النزول إلى الشارع والإعتراض على إجرام وفساد الحكام، فوجدوا أحزاب السلطة ورعاعها يسابقونهم إلى التظاهر وقطع الطرق وتمييع الحراك الشعبي، الذي جرت سرقته من أيادي اللبنانيين، عبر مصادرته من قبل زبانية أحزاب السلطة وتوامها أحزاب المعارضة، التي تقاسمها الفساد المتجذر في لبنان منذ إنشاء هذا الكيان الهزيل، الذي أسماه جنرالات الإستعمار الفرنسي "لبنان الكبير".
وعندما جرب البعض إثبات وجوده في الإعتراض في الشارع على الفساد والفاسدين، جرى قمعه بشدة وقسوة، فللنظام مؤسسات قمعية وعسكرية، تبقى في خدمته، حتى لو جوعها الحكام. إضافة إلى زبانية الزعماء وميليشياتهم وحراسهم ومرافقي نسائهم وأولادهم. والكل حاضر ليقمع كل من يرفض هذا الواقع المزري وغير الإنساني، بل وغير الأخلاقي والبعيد كل البعد عن الوطنية ومبادئها وشعاراتها؛ والمناقض للمصالح العامة وثوابتها في كل زمان ومكان.
وما يشكل لطخة عار على جبين كل رموز تحالف زعماء الطوائف وأصحاب المصارف وكبار الأثرياء، أن هؤلاء شكلوا ما يشبه "الطابور الخامس" في خاصرة اللبنانيين، إذ أنهم مارسوا ويمارسون دور فك الكماشة الثاني، الذي يضغط على رقاب اللبنانيين، في حلف غير مقدس مع العقوبات الأميركية والضغوطات "الإسرائيلية" والسعودية، لإجبار لبنان على التخلي عن مقاومته والخضوع للمطامع "الإسرائيلية" في الأرض والمياه اللبنانية، بما فيها من ثروات من النفط والغاز والمياه. مع ما يرافق ذلك من إستباحة صهيونية يومية للأجواء وللمياه والأرض اللبنانية، من دون أن تكون لدى القوى الرسمية اللبنانية الأسلحة المناسبة والكافية لحماية السيادة والكرامة الوطنية.
هذا الكيان منذ إنشائه، حمل معه بذور عذاب شعبه وطقوس الفساد في حكامه. فقد أنشىء على أسس طائفية ولوظيفة خارجية لا علاقة لها بهموم وبتطلعات اللبنانيين. ولأن بنيته طائفية كانت المحاصصة فيه شرطاً لمشاركة مختلف الأطراف الطائفية اللبنانية فيه. ولأن المحاصصة كانت تعبيراً عن توازنات قوى وليس عن عدالة ومساواة، كانت الحروب الداخلية والصراعات السياسية والدموية سمة الكيان اللبناني ودولته المزعومة. وقد كشفت هذه المرحلة الصعبة التي نمر فيها وجوه نماذج من الزعماء ممن يسمونهم أعمدة "الدولة العميقة" في لبنان، فاذ بهم حماة للفاسدين وشركاء لهم، يرسمون حولهم خطوطاً حمر لمنع محاسبتهم ومحاكمتهم على جرائمهم المالية. بل أن أن البعض لم يتورع عن رفض "التدقيق الجنائي" المحاسبي، لمعرفة أين وكيف صرفت أموال اللبنانيين العامة، لأن كشف الحقيقة سيسقط الهيكل على رؤوس كل الفاسدين والسارقين. وبات اللبنانيون أمام حقيقة لا مناص من العمل وفقها؛ وهي أن أي تغيير سياسي في لبنان مستحيل، ما لم يتم الخلاص من هذا النظام الطائفي ومن المحاصصة التي تحميه وتحمي فساد أركانه. فأركان الطوائف هم أصحاب الحصص وهم رموز الفساد وشركاء أصحاب المصارف في نهب البلاد والعباد. والدخول في نظام المواطنة والكفاءة هو الطريق الوحيد للخروج من هذا الواقع الذي إن إستمر لن يبقي في لبنان غير العجائز وأزلام المتزعمين وعائلاتهم.