دولة المسحوقين ـ عدنان الساحلي

الجمعة 12 آذار , 2021 10:45 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

لنتخيل أن سعر صفيحة البنزين تضاعف خلال أقل من شهرين، في ظرف آخر، مختلف عن الظروف التي أوجدها حكم تحالف أصحاب المصارف وزعماء الطوائف. ماذا كانت ردة  فعل اللبنانيين، خصوصاً نقابات السائقين والعمال والموظفين؟
أيام إحدى حكومات الرئيس الشهيد رشيد كرامي، جرى رفع سعر صفيحة البنزين ربع ليرة، فقامت البلاد ولم تقعد. وشمل الإضراب العام كل لبنان حتى تراجعت الحكومة عن ضريبتها الجديدة. فما الذي يجري اليوم وسعر الصفيحة ارتفع من 22 ألف ليرة إلى خمسة وثلاثين ألفاً، خلال أسابيع معدودة. وسيواصل الارتفاع كما بشرنا أحد المعنيين.
شكل هبوط قيمة الليرة اللبنانية ما يشبه الضربة التي يوجهها السارق لضحيته على رأسها، فتدوخ الضحية وتسقط أرضا. ويتفرغ السارق لنهب كل ما تحمله من مال ومن متاع. وهذا ما فعله تحالف الفاسدين، بعد أن تمكن خلال السنوات السابقة من الهيمنة على النقابات العمالية والقطاعية، التي كانت تتولى في السابق التصدي لمثل هذا الفجور الذي تمارسه السلطة وأركانها بحق اللبنانيين، متذرعة بعقوبات أميركية ساعة؛ وبظروف اقتصادية قاهرة ساعة أخرى. وأركان السلطة هم أنفسهم يكشفون كذبهم وتآمرهم على لقمة عيش اللبنانيين، التي سرقوها وحولوها إلى أرصدة مالية هربوها إلى الخارج، ليحموا سرقاتهم من جهة؛ ولينفذوا القرار الأميركي بتجفيف العملة الصعبة في لبنان وبحرمان شعبه من أمواله ومدخراته، لتجويعه وفرض إذعانه للمطالب الأميركية والمطامع "الإسرائيلية" التي باتت معروفة من القاصي والداني. صحيح أن قرار تجويع اللبنانيين أميركي-"إسرائيلي"- سعودي، كما بات معروفاً، لكن التنفيذ محلي لبناني يتولاه حكم الفاسدين، الذين نهبوا البلاد طوال ثلاثين سنة من حكمهم، الغني عن التعريف بأسماء رموزه. 
هكذا هو حال اللبنانيين، الذين سحقهم تحالف الفساد وعطل حتى ردات فعلهم الدفاعية. تعرضوا لصدمات متتالية، مالية وسياسية ونفسية، جعلتهم شبه مشلولين، تجاه ما يجري أمام أعينهم من سرقة لهم ولوطنهم ومستقبل أبنائهم. والأخطر، أن الهيئات التي خلقت لتقف في مثل هذه الظروف لتدافع عن مصالح الناس الحياتية والاجتماعية، جرى تعطيلها، بعد أن سيطر عليها تحالف زعماء الطوائف وأصحاب المصارف، الشركاء في هذه المؤامرة وفي سرقة أموال اللبنانيين وخزينة دولتهم وإيداعاتهم في المصارف.
لنتذكر ما جرى عند إقرار سلسلة الرتب والرواتب، قبل الانتخابات النيابية الأخيرة. كما تم توظيف آلاف المواطنين في مختلف الأسلاك المدنية والعسكرية والأمنية، في رشوة للناس. وسرعان ما ارتفعت أصوات السياسيين أنفسهم بالشكوى، من أن ما جرى يثقل على الموازنة العامة ويرهقها ويضعها في عجز. وكان الكلام علنيًّا، بأن إصلاح هذا "الخطأ" يتم برفع سعر الدولار الأميركي تجاه الليرة، من ألف وخمسمائة إلى ثلاثة آلاف ليرة. كما بدأ الحديث عن الحصول على مساعدات وقروض وهبات مالية من الخارج، أبرزها من صندوق النقد الدولي، مشروطة بما سمي زوراً إصلاحات، لكنها في الحقيقة تدفيع للفقراء ثمن الهدر والسرقة الذي مارسه الزعماء والأثرياء. فهل سأل أحد كيف يمكن لسلسلة الرتب والرواتب أن تكون سبباً في هذا الانهيار المالي الذي نعيشه؛ في حين أن أحد وزراء المال السابقين، الذي يتحمل جزءاً من مسؤولية الكارثة التي نعيشها، يتقدم مؤخراً باقتراح تخصيص دفعات مالية بملايين الليرات، على رواتب القوى العسكرية والأمنية، لمدة ستة أشهر، لرشوتها ولإسكات أصوات الجائعين من أفرادها؟  
ولنتذكر أن 17 تشرين من العام الماضي، جاء كمحطة من "سيناريو" المؤامرة على اللبنانيين، حيث سرقت أحزاب السلطة الشارع منهم، فباتو أسرى وضحايا حواجز العصابات وقطاع الطرق، بدلًا من أن يكونوا ثواراً يطرقون أبواب بيوت الزعماء وقصورهم ومباني إداراتهم ومصارف السراق وسراياتهم. 
والأمر الأكثر سخرية، الذي يكشف هشاشة المجتمع اللبناني، المكبل بالطائفية والمقسم بالمحاصصة والمضيع بالتحريض الذي تمارسه مرجعياته السياسية والطائفية، أن الذي كان مع حلفائه السياسيين والطائفيين سبباً في الانهيار المالي وفي إفقار لبنان، من خلال الصفقات والتعهدات والهيمنة، التي مورست بحق الإدارة والمالية العامتين وبحق جميع المؤسسات، أقصد الرئيس سعد الحريري، الذي يحلو للبعض تسميته بسعد "سوليدير" و"سوكلين" وأشباههما، هو الذي يطرح نفسه كمنقذ للبنان من أزمته المالية؛ وكأن تحالف الفاسدين الحاكم يريد مداواة لبنان بالداء الذي أوصله إلى حالته الصعبة. 
فالرئيس الحريري سبق أن أعد ورقة تحت عنوان: «إجراءات إنقاذية للأشهر الستة المقبلة»، جرى توزيعها على أعضاء حكومته قبل استقالتها، لمناقشتها على هامش موازنة العام 2020، أبرز ماىتضمنته: تجميد زيادة الرواتب والأجور لمدة 3 سنوات، بدءاً من عام 2020، زيادة الحسومات التقاعدية من 6% الى 10%، اعتماد التعاقد الوظيفي، تعديل نظام التقاعد وتوحيد التقديمات الاجتماعية، زيادة أسعار الكهرباء وإلغاء دعمها تدريجياً لتصبح صفراً في عام 2022، رفع معدل الضريبة على القيمة المضافة على الكماليات إلى 15% فوراً، ورفعها تدريجياً إلى هذا المعدّل على بقية السلع الخاضعة للضريبة، اللجوء إلى المزيد من الديون الخارجية، أي الاستدانة من الخارج لتمويل الاستيراد؛ وعبر «تأمين ودائع طويلة الأجل في مصرف لبنان والاكتتاب بسندات الخزينة بالعملات الأجنبية»، أي الاستدانة من الخارج أيضاً، لإعادة تكوين موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، تحرير القطاع العام وإشراك القطاع الخاص في الملكية العامة والإدارة، خصخصة شركتي الخلوي وليبان تيليكوم وشركة طيران الشرق الأوسط؛ وشركة الشرق الأوسط لخدمة المطارات وكازينو لبنان وإدارة حصر التبغ والتنباك؛ ومرفأ بيروت وجميع المرافئ الأخرى، إضافة إلى بيع العقارات التي تملكها الدولة!
إذاً هذا هو ما ينتظرنا من الإنقاذ الحريري في حكومة المهمة التي تنطح لتشكيلها ويريدها خالية من السياسيين. فإضافة إلى ما يعرف عن سياسة الحريري من خضوع وتبعية للسياسات الأميركية والسعودية، يقترح الحريري للخروج من الأزمة القائمة أن تبيع الدولة أصولها العامة إلى المستثمرين الأجانب وتزيد مديونيّتها الخارجية، وتُرهق المواطنين بالضرائب على استهلاكهم وتسلب الموظفين والمتقاعدين جزءاً من مكاسبهم وتُلقي عبء الكهرباء كاملاً على ميزانيات الأسر. 
لذلك جرى ويجري ترويض اللبنانيين وتجويعهم وضرب كل روح وثابة فيهم، لأن المطلوب بيع لبنان كله، ليصبح من شماله إلى جنوبه "سوليدير" كبرى. ومثلما جرى مع "سوليدير" الصغرى، حيث أخذ كل المتواطئين والمسهلين في مراكز الدولة "المعلوم" لقاء سكوتهم. سيأخذ هؤلاء حصصهم من الغنيمة وسيرزح اللبنانيون أكثر فأكثر تحت سكاكين الجوع والعوز والتهميش، فهم باتوا بالفعل مسحوقين في دولة يحكمها لصوص.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل