أقلام الثبات
لم يعد تقريبا يمر موسم لدوريات كرة القدم بالدول الأفريقية إلا ونرى في أحد مدرجات ملاعبها علماً لدولة الإحتلال الإسرائيلي مرفوعاً، في وقت تكون فيه الملاعب محاطة بيافطات إعلانات باللغة العبرية، فبات الأمر ظاهرة أعتدنا على رؤيتها كثيرا في ملاعب القارة السمراء، فما السر؟ وما الذي يحدث في القارة السمراء وملاعبها التى لم تعد مقتصرة على الرياضة فقط ؟
وكي نجيب إجابة وافية على هذا السؤال دعونا نرجع بالزمن إلى لوراء كي نعلم أصل الحكاية وكي نعرف كيف ولماذا ومتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، والبداية كانت في عام 1999م عندما حزم شاؤل بن عاموس أحد مدربى قطاع الناشئين في كرة القدم بتل أبيب أمتعته للتوجه الى القارة السمراء وبالتحديد إلى دولة أوغندا، كبداية لرحلة تضم دول غرب ووسط أفريقيا لمتابعة نشاط مشاريعه وشركاته هناك، فهو يمتلك حق التنقيب عن المعادن فى تلك الدول.
وأثناء استراحته فى أحدى أيام العمل الشاقة جذب إنتباه بن عاموس مهارات وسرعة مجموعة من الصغار العاملين معة أثناء لعبهم كرة القدم، فتقرب منهم بحكم حبه الشديد للكرة وبدأ بن عاموس مشاركة الصغار فى تمرير الكرة وتصويبها نحو المرمى، وأتفق معهم على المشاركة فى مباراة بأحد الملاعب المخصصة لكرة القدم وهم يرتدون الأحذية المناسبة والملابس الرياضية، ولكن فقر الصغار كان يمنعهم من ارتداء مثل تلك الملابس، فقدم لهم بن عاموس ملابس رياضية كهدية، وكان على جميع تلك الملابس شعارات لأندية إسرائيلية تحمل شعار نجمة داوود وعلم دولة الإحتلال.
وهنا تغير تفكير بن عاموس نحو هولاء الموهوبين الصغار فأستدعى مكتشفي المواهب وكشافي الكرة من تل أبيب بعد أن أعد معسكراً رياضياً لهؤلاء اللاعبين الأشبال، ولم يحتر بن عاموس فى الأسم الذى سيطلق على معسكره الكروي لإعداد الأشبال، فكان العهد القديم (التوراة) حاضراً فى ذهنه دائما فعلق على المعسكر يافطة بعنوان "معسكر حبقوق".
وحبقوق هو نبي من أنبياء بني إسرائيل، وتعود قصته لما قبل الميلاد بستمائة عام تقريبا، إذ كان حبقوق من سبط لاوي ساخطا على وضع اليهود من فسادهم وتجبرهم، فلم تكن تلك الأمة التى كان يحلم بها يوما ذلك النبى بأن يراها بهذا الشكل وقتها، الى أن سلط الله عليهم الكلدانيين، فأخذ حبقوق يحث شعبه بالعودة الى الله مجددا (حسب الرواية التوراتية).
وبالفعل بدأ المعسكر نشاطة الكروي وزادت فرحة الصغار، ومع الوقت بدأ بن عاموس يكلمهم عن وطنه المزعوم "إسرائيل"، حتى رفع أحد الصغار علم "إسرائيل" فى قلب المعسكر الرياضي، ومع كل صباح يصطف الصغار مرتدين الملابس الرياضية التى تحمل نجمة داوود أمام العلم لكى يقدموا له التحية وقسم الولاء لدولة "إسرائيل"، وما أن أشتد عود الصغار وثبتت أقدامهم فى المستطيل الأخضر حتى وضعت أقدامهم بعد ذلك على الرحلات الجوية المتجهة لتل أبيب، كي يبدأ كل منهم مشواراً جديداً في الإحتراف بأندية الدوري الإسرائيلي، فصار كل من أندية "هابويل تل أبيب" و"مكابى حيفا" و"مكابى تل أبيب" قِبْلَة لهؤلاء الصغار الذين بات حلم عمرهم أن يوقعوا عقوداً مع تلك الأندية ولو بخمسمائة دولار في الشهر.
ذكاء بن عاموس رفع من سقف أحلام وطموحات هؤلاء الموهوبين، ففتح المجال لهم نحو أوروبا، فبدأت أنديتهم الاسرائيلية تروج لهم، كي يأتي سماسرة القارة العجوز إلى إسرائيل إعجابا بهؤلاء الصغار، حتى بات مشهد سماسرة أوروبا في مدرجات ملاعب تل أبيب بفترة الإنتقالات الشتوية والصيفية فى أوروبا كسوق عكاظ، فتجد كشاف نادى "جينت البلجيكى" يطلب ضم اللاعب الغانى رقم عشرة، ثم يعلن سمسار نادى "اياكس الهولندى" ذو الشعبية الطاغية بين يهود هولندا موافقته على ضم ذلك المدافع الجابونى، ثم فاكس يأتى لإدارة النادى "الإسرائيلي" لضم الظهير الأيسر النيجيرى السريع الى نادي "تولوز الفرنسى" ....
وهكذا أصبحت أندية تل أبيب سوقا لسماسرة القارة العجوز وأصبح النادى الإسرائيلي يربح ماديا أضعافا مع إحتراف كل لاعب في أوروبا، فضلاً عن إحتراف الأفارقة الصغار في أوروبا وهم يحملون الجنسية الإسرائيلية، وتلك النقطة الأهم.
أما بنسبة لبن عاموس فصارت معسكراته تنتشر فى كل ربوع أفريقيا كالجراد، وصارت أعلام دولة إسرائيل ترفرف كل يوم فى بلد ومدينة أفريقية جديدة، ويتم إستقبالة فى تل أبيب كقائد أو بن جوريون جديد، ويتصل به ضباط الموساد قبل الإعلاميين والسماسرة، وأصبحت خطة إنتشار وعمل معسكرات حبقوق مدعومة من إتحاد الكرة الإسرائيلى نفسه وجزءاً من الأمن القومي الإسرائيلي، إلى أن جاء المشهد الذى ترك صدمة على المشاهد العربي فى صيف 2006م، عندما قام اللاعب الغانى جون بينتسيل المحترف فى صفوف نادى "هابويل تل أبيب" ومن قبله نادى "مكابى تل أبيب" بعد تسجيل منتخب بلاده هدف الفوز في شباك المنتخب التشيكى بمنافسات كأس العالم برفع علم إسرائيل داخل الملعب وأمام كل الكاميرات تحية للبلد التى أنعمت علية وعلى رفاقه بكل ما هم فيه الأن، وهنا لم يستوعب المشاهد العربي ما الذى يراه في صدمة لكل جماهير الكرة العربية، لأن كرة القدم فى نظر العرب أداة للتسلية، أما فى نظر الأوروبيين صناعة، بينما فى نظر تل أبيب أحد أهم أسلحة القوى الناعمة، وأداة جديدة لإستعمار مزيد من الدول، حتى باتت دولة الإحتلال كل يوم تدق مسمارا جديدا فى الملاعب الأفريقية وتحرز أهدافاً بالجملة فى شباكها، بعد أن سيطرت على أغلب خطوط الملعب.
فهل للحضور العربي بالقارة السمراء الذى تأثر برحيل خالد العرب الزعيم جمال عبد الناصر، أن يعود مرة أخرى إلى ملعب القارة السمراء الكبير، أم ستستمر إسرائيل فى الإستحواذ على الكرة فى مباراة صارت من جانب واحد تقريبا.