أقلام الثبات
يواصل رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري مساعيه الطائرة لتشكيل حكومته العتيدة، دون أن تنتج أي جديد، حين يحط على أرض لبنان، مكتفياً بتشغيل مصادره التي باتت قليلة، لتوزع "الأسرار" و"التحليلات"، والمواقف، التي تبرر حركته وتخلفه عن تشكيل حكومته.
وبرأي مصادر قانونية ودستورية أن ما يقوم به الرئيس المكلف من مباحثات خارجية بشأن ولادة حكومته مخالف للدستور والأعراف والتقاليد والقوانين، لأن أمر ولادة الحكومة شأن لبناني بحت، وهو أمر لم يحصل له مثيل حتى في زمن الانتداب الفرنسي (1918-1943)، حينما كان ممسكاً من أصغر التفاصيل إلى أكبرها بالحياة السياسية الدستورية والرسمية، كما لم يشهد لها مثيل حتى في ما كان يطلق عليه "زمن الوصاية السورية" حيث كان هناك شيء من حفظ ماء وجه المسؤولين اللبنانيين.
وثمة ملاحظات عديدة على أداء رئيس تيار المستقبل، السياسي، منذ تسلمه رئاسة الحكومة للمرة الأولى، في 9 تشرين الثاني 2009، بعد اعتذاره عن تشكيل حكومة عهد ميشال سليمان الثانية إثر انتخابات 2009، إذ أنه اعتذر بعد 72 يوماً من التكليف (حيث كلف بتشكيل الحكومة في 27 حزيران، واعتذر عن المهمة في 10 أيلول) ليعاد تكليفه بالمهمة مرة جديدة في 16 أيلول، ليعلن في 9 تشرين 2009 ولادة حكومته الأولى (أي بعد 45 يوماً).
لكن هذه الحكومة انتهى عمرها في 12 كانون الثاني 2011، بعد استقالة ثلثها دفعة واحدة، أي بعد 426 يوماً من ولادة مراسيمها، غاب منها الحريري عن البلاد نحو مئتي يوم قضاها في زيارات وجولات على مختلف أنحاء العالم.
ويعود الحريري الابن إلى رئاسة الحكومة بعد انتخاب النائب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية في 31 تشرين الأول 2016، فشكل حكومته الثانية بعد 40يوماً من التكليف، لكنه في الرابع من تشرين الثاني 2017، أعلن من العاصمة السعودية الرياض التي وصلها قبل يوم واحد، استقالة حكومته، عبر بيان أذاعه من "قناة العربية".
وقد كشف المفرد السعودي الشهير مجتهد في حينه حقيقة هذه الاستقالة بسلسلة تغريدات نشرها على حسابه فقال "أن السبب الحقيقي لذهاب الأخير للرياض هو حشره مع الأمراء ورجال الأعمال الذين أوقفتهم لجنة مكافحة الفساد مساء السَبت 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 على خلفية تهم متعلقة بالفساد. وأن الهدف من وراء ذلك هو ابتزازه واستعادة الأموال التي لديه في الخارج، وأن الأمر ليس مرتبطًا بلبنان". وكما قال مجتهد فإن "البيان الذي قرأه الحريري كُتب له ولم يكن مقتنعًا به ولا بمحتواه كما لم يكن مقتنعًا بإعلان الاستقالة من الرياض". وأضاف: القصة ليست إلا قرار "عربجي" من قبل محمد بن سلمان لتبرير إبقائه في الرياض وابتزازه ماليًا حيث لا يستطيع إبقائه في الرياض وهو رئيس للوزراء.
بيد أن أحد الديبلوماسيين العرب البارزين -لم يذكر اسمه- قال في حينه، ان اختيار الرياض مكاناً لإعلان استقالة الحريري، تم عن سابق تصور وتصميم للتأكيد على قدرة المملكة العربية السعودية في التأثير في الواقع السياسي اللبناني، الذي انتخب العماد عون رئيساً للجمهورية وتشكيل حكومة وحدة وطنية، تخلت (وفق الديبلوماسي العربي) عن الالتزام بتحييد لبنان.
وفي عهد حكومته الثالثة، بعد انتخابات 2018، التي صدرت مراسيم تشكيلها بعد سبعة أشهر من إعلان التكليف (31 كانون الثاني 2019)، لكن الحريري قدم استقالة هذه الحكومة في 29 تشرين الأول 2019، بعد انتفاضة 17 تشرين الأول، أي بعد 13 يوماً من الاحتجاجات اللبنانية الواسعة التي أشعل فتيلها قرار وزير الاتصالات بفرض ضريبة على خدمة "الواتس اب".
وإذ طرح بعد هذه الاستقالة، عدة اسماء للتربع على الكرسي الثالثة، إلا أن الاسماء كانت تتساقط الواحد تلو الآخر ليرسو أخيراً على اسم وزير التربية السابق حسان دياب الذي حمل بين يديه كرة النار، لكن انفجار المرفأ في الرابع من آب 2020 أطاح بها، ليعود بعدها سعد الحريري رئيساً مكلفاً في سابقة فريدة من نوعها في المنطقة العربية، فهذه قد تكون المرة الأولى التي تطيح فيها انتفاضة شعبية برئيس وزراء بسبب تهم الفساد المالي والاقتصادي والسياسي، يعود إلى منصبه، وإن كانت هذه على متن مبادرة فرنسية ورضا أميركي.
الزيارة الباريسية تؤكد أن الرئيس مانويل ماكرون لم يستقبل رئيس الحكومة الملكف سعد الحريري، رغم ما اشيع عن لقاء يوم الثلاثاء الماضي في 9 الجاري، ويومها انتظر الحريري من الصباح حتى المساء من دون أن يحصل اللقاء في الإليزيه.
ووفقاً للمعلومات، فإنه أمام إلحاح الرئيس الملكف للقاء مع سيد الإليزيه، واتصالاته المتلاحقة مع رئيس الاستخبارات الفرنسية برنار إيمييه، ورئيس خلية لبنان في الإليزيه، وأحد مستشاري الرئيس الفرنسي، تم الاتفاق على لقاء عشاء غير رسمي، يمنع فيه التصوير ونشر أي صورة أو خبر أو حديث عن هذا اللقاء، كما يمنع أي كلام عن لسان الرئيس ماكرون، علماً أن الحريري كان يطمع بموقف من الرئيس الفرنسي، لاستغلاله في خطاب 14 شباط.
ووفقاً للمعلومات الموثوقة المصدر عن الزيارة الباريسية للحريري، فإن الرد على إلحاح رئيس الحكومة المكلف برفض استقباله رسمياً، كان تحت عنوان أن الرئيس الفرنسي لا يريد إلحاق الضرر بالعلاقة مع رئيس لبنان ميشال عون، وخصوصاً بعد التسريبات الحريرية في السابق، عن توزير شخصيات لبنانية مقيمة في باريس وتحمل الجنسية الفرنسية وأنها من اختيار الرئيس ماكرون، ووصل الأمر إلى حد تعيين الوزارتين اللتين يريدهما سيد الإليزيه، وهو أمر غير صحيح بتاتاً وفقاً للمصادر.
بأي حال، فإن جولات وصولات الحريري الخارجية منذ تكليفه بتشكيل حكومته، تعتبر من وجهة نظر دستورية مخالفة كبرى، لأن المكلف ليس رئيساً للحكومة بعد، وبالتالي، لا صفة رسمية له، وإن كان رئيساً سابقاً للحكومة، من جهة، كما أنه لا يحق له دستورياً وقانونياً أن يبحث في الخارج عن حل لعقدة حكومته المرتقبة من جهة ثانية، لأن الحكومة تشكل في لبنان وليس في الطائرة.
وإذا كان الحريري، قد وعد نفسه قبل التكليف بأنه يحمل مشروعاً للخروج من الانهيار المالي والاقتصادي والسياسي الذي يعيشه لبنان، إلا أن الثابت هو أنه أحد أسباب هذا الانهيار، كما أنه لن ينجح في تنفيذ الانقلاب الذي حاول السفير مصطفى أديب حين تكليفه، بتنفيذه عبر محاولة فرض اعراف جديدة تتخطى موازين القوى في مجلس النواب.
وبشكل عام، فإن أسلوب وطريقة الحريري الآن تخالف كل الأعراف الديمقراطية في محاولته احتكار التشكيل، علماً أنه سبق له بعد استقالة حكومته الأخيرة أن يعود إلى السراي، لأنه كان لديه ورقة إصلاحية أقرتها حكومته المستقيلة، لكنه رفض بذريعة عدم تأييده من قبل الفريقين المسيحيين الأكبر.
فهل تغير الوضع الآن، حتى يرشح نفسه لمهمة انقاذية، بعد أن كانت السفينة تغرق!!.
يعلق بيروتي مخضرم هنا: لو كان الحريري الابن يملك قدرة الانقاذ، لكان منع مؤسساته التي ورثها عن والده من الانهيار، فمن يعجز عن انقاذ بيته لن يكون قادراً على انقاذ الوطن.