أقلام الثبات
ثلاثة أيامٍ فقط، تفصل ذكرى توقيع وثيقة مار مخايل في السادس من شباط، عن عيد مار مارون في التاسع منه، لكن قروناً تفصل بين زمن رهبان مارون، الذين سكنوا مغاور الجبال في أزمنة الإضطهاد، وبين عصر "مار مخايل" كخيار مسيحي لبناني للعيش الواحد مع الشريك الآخر في الوطن، دون ذوبان الهوية الدينية والثقافية لكلا الفريقين، التيار الوطني الحر وحزب الله، ولعل عدم إنضمام أطراف لبنانية الى تفاهم مار مخايل، هو الذي عرقل لغاية الآن تطبيق البند الرابع من الوثيقة المرتبط ببناء الدولة، وتفرملت كل جهود اللجان المشتركة بين التيار والحزب عند هذا البند، لأنه على ما يبدو، أن بناء الدولة ممنوع، وممنوعٌ أيضاً على ميشال عون أن يحكُم لأنه شريك حزب الله وحليف المقاومة.
وإذا كان بعض المسيحيين من أصحاب الرهانات على الخارج عبر بعض السفارات في لبنان يعتقدون، أن فشل عهد ميشال عون هو نصرٌ لهم، فإنهم ارتكبوا ويرتكبون ما يُعرف عند المسيحيين بالخطيئة المُميتة، لأن الكارثة السياسية آتية إليهم، وعليهم في حال لم يُساهموا مع ميشال عون وكل الخيِّرين لبناء دولة عبر تطبيق إتفاق الطائف، والبديل عن الطائف أيضاً ممنوع، سيما وأنه يستلزم مؤتمراً تأسيسياً، قد يحتاج لنحو عام على الأقل للتوافق على مَن سيحضره في بلد الثمانية عشر طائفة، خاصة أن الأقليات الدينية هي عند المسيحيين أكثر منها عند المسلمين، والموارنة الذين يُطالِب بعضهم اليوم بتعديل الطائف، مُلزمون بِدفع المزيد من الأثمان لصالح أقليات الطائفة المسيحية، إضافة الى فتح باب المُنازعات مع المسلمين على البقايا التي أبقاها الطائف للمسيحيين، وهذا ليس تشاؤماً بل ملامسة واقع في مجتمعٍ لم يُقدِم على إجراء تعداد سكاني طائفي منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
نختصر قروناً من الوجود المسيحي في لبنان بثلاث محطات تاريخية مُعاصرة:
تأسيس المسيحي أنطون سعادة الحزب السوري القومي الإجتماعي عام 1932، لكن سعادة على ما يبدو جاء في غير زمانه الى مجتمع مشرقي مُخلَّع، عاجز عن قراءة الرؤية الإنسانية والوطنية والنهضوية التي حملها إليه مُفكِّر وعالم إجتماع من الطراز الرفيع، لتناقُض الوحدة الجغرافية السياسية التي نادى بها سعادة مع إرادات الإنتدابات التي حملت خرائط سايكس – بيكو وأمعنت تمزيقاً بالكيانات وما زالت تُمعِن، خاصة أن الوعي القومي العام لدى شعوب الشرق الأوسط قاطبةً مفقود، والفورة الدينية التكفيرية الحالية قضَت على منطق الإنتماء الوطني والإنساني.
وإذا كانت المحطة المُعاصرة الثانية في تاريخ مسيحيي لبنان هي في تأسيس الجبهة اللبنانية عام 1976، فقد كان لهذا التأسيس ظروفه، وجاءت المحطة الثالثة عام 2000 عبر تأسيس "لقاء سيدة الجبل"، في محاولةٍ لإعادة إحياء الجبهة اللبنانية، لكن هذا اللقاء لم يستجلب الأحزاب المسيحية إليه، وإعادة إحيائه الآن في العام 2021، أي بعد أكثر من عشرين عاماً على تأسيسه، الهدف منها أولاً وأخيراً التصويب والتسديد على "وثيقة مار مخايل"!
ومن زمن أنطون سعادة ومحاولة صهر الطوائف ضمن بوتقة قومية، مع النهضة الثقافية والأدبية التي قادها مسيحيون، الى وثيقة مار مخايل كلقاء شراكة وطنية للطوائف، لا تنفع للمسيحيين محاولات تقزيمهم الى مستوى لقاءات شبيهة بلقاء سيدة الجبل، إلا إذا أُريد لهم المزيد من الإنعزال عن الواقع الوطني الشامل، وترك مسيحيي الأطراف لمصائرهم المجهولة، وتقوقُع أهل المراجل الفارغة في الجبال لتغدو قصورهم أشبه بمغاور النُسَّاك في زمن مار مارون حجر بلا بشر، بدل أن يكونوا من رهبانه ويحملون إرثه على امتداد لبنان... .