أقلام الثبات
تعمّ الأزمات الوطن والمجتمع اللبناني منذ ما قبل مظاهرات 17 تشرين الأول 2019 ، والتي ترافقت مع أزمة إقتصادية ومالية ضربت لبنان وأزمات فساد نخر المجتمع والدولة حتى العظم ولم ينتهِ مع إنفجار المرفأ. وتعيش الأحزاب، وهي مرآة عن المجتمع اللبناني، أزمات قد تكون أعمق من تلك التي ضربت البنية اللبنانية.
تاريخياً، كانت نشأة الأحزاب اللبنانية مرتبطة بالظروف السياسية التي مرّ بها لبنان، فالجيل الأول أي جيل مرحلة الانتداب، تأسست الأحزاب وكأنها كتل سياسية. أما الجيل الثاني، أي أحزاب دولة الاستقلال وما بعدها، فكانت أكثر تنوعًا من الجيل الأول وأفضل تنظيمًا، وما من عقيدة قومية أو أممية وما من تيار سياسي إلا وكان له تمثيل حزبي في لبنان.
الجيل الثالث، أي جيل الحرب، أو التجربة غير المشرّفة في تاريخ معظم الأحزاب اللبنانية التي تحوّلت الى ميليشيات تمارس القتل على الهوية والترهيب وفرض الخوّات. بعض هذه الأحزاب، مَن تأثر بالأممية أو بطروحات القومية العربية، فاعتبر الوطن محطة لبلوغ هدف أسمى، والبعض الآخر طالب بإقامة دويلة طائفية (كونتون) والبعض نادى بـ "دولة إسلامية"، والقلّة فقط من هؤلاء آمنت بلبنان وطنًا نهائيًا لجميع أبنائه بطوائفهم المتنوعة كافة.
أما الجيل الرابع، أي مرحلة ما بعد الطائف ولغاية انسحاب السوريين (1990- 2005) ، فلقد خلعت ميليشيات الحرب ثوبها العسكري ولبست بدلة رسمية وتقاسمت حكم لبنان حيث سُرقت مقدرات الوطن وأغرقت الخزينة العامّة بكمّ هائل من الديون، وتفشّت المحسوبية والزبائنية بأبشع صورها.
فرض السوريون إيقاعهم، فتحجّرت الأحزاب وباتت أشبه بحزب واحد بعناوين عدّة. ولم يخرج عن إطار السلطة ويمارس إطار حزبي مختلف سوى حزب الله، الذي غيّر قيادته الحزبية واحتكر العمل المقاوم وتراجع أو انسحب دور الأحزاب العقائدية وأحزاب المقاومة الوطنية اللبنانية السابقة من العمل المقاوم في الجنوب.
وحده التيار الوطني الحر كحزب سياسي، أتى كنتيجة للإنسحاب السوري من لبنان، بعدما كانت تجربته النضالية الشبابية قد استمرت على مدى سنوات المنفى التي عاشها العماد عون.
شكّلت تجربة التيار الوطني الحر الحزبية الجديدة عام 2005، ودخوله الى المعترك السياسي، الى تكتّل الاضداد السابقة ضده خصوصاً في الانتخابات النيابية، فأقامت تحالفاً رباعياَ تحوّل الى سداسي، تشكّل - بقدرة قادر- من مروحة كبيرة من جدًا من الأحزاب المتباينة الأهداف، والعقائد والايديولوجيات.
أما اليوم، فالأزمة التي تعانيها معظم الأحزاب اللبنانية هي:
1- ابتعدت الأحزاب اللبنانية عن الأطر المؤسساتية التي تطبع الأحزاب عادة، وبات الحزب اللبناني نمط جديد مبتكر من تجربة "الاقطاعي" القديم التي تقوم على شخصنة السياسة التي تستند الى تأليه الفرد- الزعيم / البيك، وطاعته طاعةً عمياء.
لقد ضربت الأحزاب اللبنانية كل المفاهيم القديمة التي حوّلت السياسة من ممارسة إقطاعية الى ممارسة حزبية:
- من المفترض أن تقوم الأحزاب بتوفير قنوات للمشاركة الشعبية وطرح بدائل، بينما يسعى الاقطاعي الى إبقاء القديم على قدمه، وتأبيد العلاقة الزبائنية بينه وبين الناخبين لتأمين استمراريته واستمرارية عائلته، وهو حال الأحزاب اللبنانية، التي تعمد الى استمرار "نظام الحماية" بحيث تستطيع من خلاله استغلال حاجات المواطنين في المنطقة، لتكريس استمرار الولاء.
- من مهمة الأحزاب عادةً إعداد النخب السياسية، عبر توفير تكافؤ الفرص بين المواطنين. أما ما يسعى اليه الاقطاع، فهو احتواء هذه الظاهرة، والعمل على ألا يخرج النفوذ السياسي من إطار العائلة، بل إنه يحاول أن يمنع المواطنين العاديين من الارتقاء والتقدم - وحتى من التعليم- خشية منافسته في الحيّز السياسي، وهو مأزق النخبة السياسية الحزبية.
2- الانقطاع ما بين المبادئ والواقع، فالمبادئ الطنانة الرنانة التي تأسست الأحزاب على أساسها، اصطدمت بالواقع السياسي، وبانخراط هذه الأحزاب في تسويات سياسية، لا ترقى الى مستوى تطلعات المحازبين والمناصرين، على سبيل المثال لا الحصر:
- المستقبل والتيار الوطني الحر، أقاما تسوية مخالفة لكل ما تربى عليه مناصروهم، فانفرط عقدها بعد مظاهرات 17 تشرين.
- حزب الله الذي وعد مناصريه بمكافحة الفساد، عاد وتراجع عن ذلك معرباً عن قلقه من نشوب حرب أهلية، الى أن أتى خطاب السيد نصرالله الأخير ليؤكد أن الحزب لم يتخلَ عن ذلك الهدف.
3- عادت بعض الأحزاب لتنزلق الى حمل السلاح والخطاب المذهبي والغرائزي والتكفيري للآخر، ولو قُدّر لها لكررت التجربة البغيضة من الاقتتال الأهلي والتحارب الطائفي. ويمكن الإشارة الى حديث بعض المسؤولين القواتيين، والذي يترافق مع أحاديث شعبية عامة، عن قدرة القوات على تجنيد آلاف المقاتلين. كما نشير الى تيار المستقبل الذي تحوّل من تيار العلم الى حزب لديه ميليشيا مسلحة تقوم بترويع المواطنين كلما استثير الغضب المذهبي، ناهيك عن حركة أمل والاشتراكي وسواهم.
بكل الأحوال، الأمثلة كثيرة وتطول، لكن المفيد التأكيد، أن الفساد ينخر المجتمع اللبناني قبل سياسييه، والتأليه يصنعه مواطن لا يؤمن بقدرته على التحرر، وما الأحزاب وقيادييها إلا مرآة عن مجتمع وشعب، و"كما تكونون يولّى عليكم".