أقلام الثبات
تزاحمت التحليلات والتوقعات ومحاولات سبر الاغوار في مختلف انحاء العالم حول ما الت إليه الأوضاع في الولايات المتحدة الأمريكية بعد اقتحام الكونغرس من انصار الرئيس المهزوم انتخابيا دونالد ترامب , الذي لم يرض انصاره , بالسبيل الاميركي في مقاربة الحرية والديمقراطية .
لا شك ان النموذج الاميركي لما يسمى "الديمقراطية", يقف على حافة الهاوية باحدى رجليه , بينما الرجل الثانية فوق فوهة الهاوية تماما , بعد 75 عاماً من عملية مسح العقول عبر نشر ثقافة مزيفة , استخدمت في ترويجها هوليود بافلامها ومسلسلاتها التي تصور دائما العربي او المسلم بصورة الارهابي والقاتل ,كما محطاتهم الاخبارية وصحفهم , و"السوشيل ميديا" في العقدين الاخيرين , بموازاة تصوير الاميركي دوما بانه المنقذ , والحامي للديمقراطية والحريات على انواعها .
لم يكن مشهد اقتحام الكونغرس من جانب انصار ترامب,الا جزءا يسيرا من الصراع الداخلي الاميركي بمكوناته الثقافية المتعددة , والاقتصاد الوحشي لرأس المال ,البعيد كل البعد عن لمسة انسانية ولو ضئيلة , وبالتالي هو نتيجة تراكم ثقافي سلبي بنته الادارات المتعاقبة , والقائم على القوة , اكان بالاخضاع او القتل , او الغزوات على مستوى الخارج , وقد وجدت هذه الثقافة جراء الدعاية المزيفة جيوشا من العملاء , تطوعوا لخدمة الولايات المتحدة الأميركية، مقابل حفنة من الدولارات, بينما تعرض جيش من الاعلاميين المرتزقة لعمليات غسيل دماغي من قبل الدعاية الأميركية، مع تنظيم زيارات ودورات لهم تحت اشراف السي آي ايه , وأصبح التفوق الأميركي كأنه قدر البشرية , يروجون له بلا ادنى تردد , ومن دون خشية الضمير رغم ان الشواهد كثيرة، ليكون الشعار ان "الدنيا فريسة الشاطر " أكثر منها قضية عقل ومنطق واخلاق وانسانية.
ليس من شك بعد مشاهد الاسبوع الاخير في الولايات المتحدة, ان المجتمع الاميركي الحالي الذي هو نتاج اكثر من 244 عاما - بعد الاعلان عن انفصال الولايات ال 13 الاولى عن التاج البريطاني, واعلان الاستقلال عام 1776-هو مجتمع منقسم على ذاته ويحمل بذور تدميره التلقائي , وبالتالي لم تنجح كل السنوات في توحيد رؤية , حتى لانتخاب رئيس للولايات التي ظهر انها موحدة اسميا , ولذلك فان الانتقادات والهجوم كان على طريقة الاقتراع فيما القانون يتيح بتركيبته , التزوير, وبالتالي ليس شفافا ونزيها , كما تطلب الولايات المتحدة , وتحاول فرض قوانين انتخابية كما يحلو لاداراتها , وتطلب مراقبين دوليين اثناء الاقتراع لممارسة وصاية علنية على هذا البلد او ذاك, وخلاصة القول هنا أن النظام الانتخابي الحالي في الولايات المتحدة الأميركية أصبح هرما , ان لم نقل ميتا , ولم يعد يفي بالمعايير "الديمقراطية" الحديثة، التي يتشدق بها الاميركيون, لانه يحمل في طياته فرصاً لانتهاكات عديدة، وهذا ما حدا بالإعلام الأميركي لاستخدامه كأداة في الصراع السياسي، وهو ما ساهم أيضا, وإلى حد كبير في الانقسام المجتمعي الواضح الآن في الولايات المتحدة الأميركية. فيما دان الرؤساء السابقون باراك أوباما وجورج دبليو بوش وبيل كلينتون وجيمي كارتر عملية الاقتحام، وتنوعت التعليقات على المشهد بأنه "مقزز ويحزن القلب"، و"يليق بنتائج الانتخابات في جمهورية من جمهوريات الموز وليس في جمهوريتنا الديمقراطية"، و"سيذكره التاريخ على أنه لحظة عار وخزي كبير"، و"كان الاقتحام نتيجة كارثية لسياسات بث السموم وانتشار المعلومات المضللة". بالاضافة الى المواقف الاوروبية المنددة والمصدومة مما جرى, من دون النظر الى الواقع وجوهر الامور التي ادت الى ذلك ,بعدما أصبح من الواضح أن المجتمع الأمريكي "لا يريد العودة إلى الوراء".
ليس فقط النظام الانتخابي مترهل في الولايات المتحدة , فكل التكوين السياسي- العسكري - الامني ببعده التحالفي كالناتو, وكذلك الاقتصادي ,والاجتماعي - الثقافي, على طريق الانهيار بعدما امضى عشرات السنوات في الهروب الى الامام من استحقاقات مثل الموت الذي لا يرد , وربما ان السنوات الاربع من حكم ترامب ,, أدت الى تسريع انكشاف الوهم , ولذلك يلمس المراقبون,ليس التصدي, او احتواء ما اراده ترامب , وانما الدفاع عن قواعد نظام اصبحت بالية , وهي قواعد أكثر شمولية من اي بلد في العالم داخليا وخارجيا, حيث العقوبات احدى اذرع الاخطبوط الامني - العسكري , عندما يفشل رأس الاخطبوط في الاجهاز على فريسته ليأكلها .
ان القيمين على السياسات الاميركية باتوا يدركون ان الفوضى التي عممتها واشنطن في بلاد العالم آتية الى عقرها , , ولم يكن شعار "حياة السود مهمة "الا ذوبان راس جبل الجليد العنصري , وان احداث الكونغرس حيث سقط قتلى وجرحى تؤكد ان استقرار الولايات المتحدة بدأ يتزعزع والمشهد لم يكن الا مؤشرا لما هو آت على ظهور الدبابات,ويعطي المتعمقون في تركيبة المجتمعات الاميركية خمس سنوات فقط، لتدخل بعدها في "فوضى" و"حروب أهلية"، جراء نضوج العوامل العرقية والديموغرافية بالكامل لتصل إلى 100% في غضون 20 عاماً، بعد أن تبين أن كل مقاييس الديمقراطية الأميركية مزيفة.
هناك ايضا العوامل الخارجية التي ستلقي بثقلها على الراس الاميركي المدبر للفتن جراء ما اصاب الولايات المتحدة من تراجع في سياساتها الخارجية وطبيعة علاقاتها مع حلفائها , عندما يصبح البيض أقلية في الولايات المتحدة. على مستوى السياسة الخارجية، ستنتقل زعامة العالم إلى الصين، وهو عامل سينضج خلال 10 سنوات (في غضون 5 سنوات ستتفوق الصين على الولايات المتحدة الأميركية اقتصادياً، وفي غضون 15 عاماً في المجال العسكري).
يبقى هناك الازمة الاقتصادية وانهيار هرم الديون والدولار كعملة عالمية هي الأصعب تنبؤاً، فمن الممكن أن يحدث ذلك في غضون عام، أو في غضون خمسة أعوام، وربما حتى بعد ذلك. وهي الأزمة التي ستؤدي إلى تفاقم كل الأزمات الأخرى, ولن تكون هناك قدرة على الوقوف بوجه الحتمية التاريخية , رغم القدرات الاميركية الهائلة , وعندها سيقف سكان العالم من مشارقه الى مغاربه مسمرا امام الشاشات ليشهد انهيار اخر الامبراطوريات الوحشية , وهم يطقشون المكسرات او الفوشار .