أقلام الثبات
سجلت نهايات العام المنصرم 2020 الفصول الأوضح لسقوط ما سمي عرضاً "المسلمون الجدد". والمقصود بهذه التسمية هي قوى الإسلام السياسي، التي شاركت في ما سمي زوراً "الربيع العربي" وقادت جوانبه العسكرية تحديداً، فتبين أنه كان بامتياز ربيعاً عبرياً، هدف إلى تنفيذ أجندات أميركية و"إسرائيلية"، تتمحور حول الإعتراف بالكيان الصهيوني الذي يحتل فلسطين؛ والتخلص من قوى المقاومة، التي تواجه الغزوة الغربية ورأس حربتها الكيان الصهيوني، الذي يشكل ثكنة عسكرية تهدد كل جوارها العربي، بل وحتى الإسلامي، الذي وضع أما خيارين لا ثالث لهما: اما الحرب والدمار؛ وأما الخضوع للإملاءات الأميركية والمطامع التوسعية والإغتصابية الصهيونية، التي تطال الأرض والمياه والثروات العربية؛ وصولاً إلى سلب القرار الوطني الساعي لتوفير حياة حرة وكريمة للشعب العربي في مختلف أقطاره، حتى تلك البعيدة مئات وآلاف الكيلومترات عن فلسطين، مثل السودان وليبيا والمغرب واليمن. أو تلك المحاددة لفلسطين مثل الأردن ومصر ولبنان وسورية والعراق.
وهذا السقوط المدوي ليس جديداً، فتلك القوى سبق أن أدانت نفسها، عندما إصطدمت بجمال عبد الناصر ومشروع الوحدة العربية، فكان ذلك "الإسلام" المشوه أداة في خدمة الإستعمار القديم الفرنسي والإنكليزي، ثم تحول تابعاً لزعامة قوى الهيمنة العالمية المتمثلة في الولايات المتحدة الأميركية. بل والمفارقة أن تلك القوى شنت حرباً شعواء على فكرة "الإشتراكية"، باعتبارها التعبير الحديث عن العدالة الإجتماعية والغاء الفوارق الطبقية، فإذا بتلك القوى تصنف "إسلامها" في خانة القوى الراسمالية المستغلة والتابعة للرأسمال العالمي، الذي تسيطر عليه الحركة الصهيونية. وهكذا تصادم أولئك "الإسلاميون" مع نظام جبهة التحرير الجزائرية؛ ومع نظام ثورة 23 تموز في مصر؛ ومع كل نظام عربي وإسلامي صنف في خانة اليسار المحلي أو العالمي، أو حليفاً له. فمن قال لتلك القوى أن الإسلام الذي حمل رسالة العدل والمساواة ورفض الظلم وعلو الناس على بعضها البعض، هو دين رأسمالي يحمي مصالح الرأسماليين ويضطهد الفقراء ولا يمسك بايديهم ليعيشوا جنة الله على الأرض، قبل أن ينالوا حظهم منها في السماء.
أما الجديد في نهج هذه القوى المتسترة بالإسلام، فهو تأكيد حقيقة التزامها مشروعها المصنع في عواصم الغرب الإستعماري، فهي تتراصف وتتسابق وتتواطأ حالياً على تنفيذ أوامر سيدها الأميركي، بالإعتراف بالكيان الصهيوني وإقامة علاقات معه؛ وتطبيع تلك العلاقات لتصبح كأنها بين جارين صديقين وليس بين عدوين: كيان مصطنع يحتل فلسطين العربية ويطرد شعبها منها ويهدد جوارها بوجوده ومستقبله؛ وأقطار عربية يفترض بها أن تدافع عن حاضرها ومستقبلها، في الحد الأدنى، أو تتمتع بقدر من الكرامة والمشاعر القومية والدينية، فتقاتل دفاعاً عن حق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه ومقدساته.
اليوم تتكشف كل الأوراق المخفية، ففي مصر بعدما قفز "إسلاميوها" إلى السلطة على ظهر الحراك الشعبي الذي لم يكن لها فضل في تثويره، رأينا محمد مرسي يقول "لبيك سورية" بدلاً من "لبيك فلسطين". وفي تونس يقف "إسلاميوها" عقبة كأداء، في وجه مطالبة الشعب التونسي بإقرار قانون يمنع التطبيع مع العدو الصهيوني. وفي المغرب شكل تحالف إسلامييها مع النظام الملكي الحليف القديم للأميركيين، غطاء له حماه من تداعيات التحركات الشعبية خلال "الربيع العربي". وحزب العدالة والتنمية المغربي (الإسلامي) يغطي علناً التطبيع المغربي مع الكيان الصهيوني ويشارك في فصوله المخيبة. وفي ليبيا استقدم مدعو حمل المشروع "الإسلامي" قوات الأطلسي، للإطاحة بحكم معمر القذافي. وتسببوا بتدمير ليبيا وتقسيمها عملياً، مما وفر الأرضية المناسبة لتحقيق أطماع الرئيس التركي رجب أردوغان، الذي أرسل جيشه ليعيد أمجاد السلطنة العثمانية، على حساب دماء الليبيين ووحدتهم وثرواتهم، في وقت يؤكد فيه عمق العلاقات التركية-"الإسرائيلية" واتساع التنسيق بين أجهزة دولته والكيان غير الشرعي في فلسطين.
ولا ننسى أن أدوات أميركا و"إسرائيل" والغرب في المشرق العربي، مثل "تنظيم القاعدة" و"داعش" و"جبهة النصرة"، هم أولئك "الإسلاميين" تحديداً. وهم حلفاء لنظام "وادي عربة" في الأردن منذ عقود. من دون أن ننسى خدام الحرمين الشريفين في الرياض والخليج و"إسلامهم" الوهابي، فتحالف آل سعود والوهابيين حارب كل تغيير عربي نحو الأفضل. وناصب العداء كل من سعى بجد لمحاربة المشروع الصهيوني وتحرير فلسطين. وهذا التحالف، باعتراف الإعلام "الإسرائيلي" هو الذي يقود ويدفع الأقطار العربية للإعتراف ب"إسرائيل" ولإقامة علاقات تجارية وسياسية وسياحية معها. فيما يمعن العدوان السعودي- الأميركي قتلاً بشعب اليمن ويدمر هذا البلد الذي يسمى "أصل العرب"؛ ويقدم آل سعود دفعات من مئات مليارات الدولارات كل مرة، من مال شعب شبه الجزيرة العربية للأميركيين ثمنا لحمايتهم وتسليحهم.
هذا الغيض من فيض إنحرافات مدعي الإسلام، على حساب قضية فلسطين ومجاهديها وحساب المقاومين في لبنان؛ والرافضين الخضوع للإملاءات الأميركية في سورية واليمن؛ وفي كل بلد عربي وإسلامي يرفض التبعية لقوى الهيمنة العالمية، فتح الباب واسعاً أمام كل غيور على دينه ووطنه وأمته، للتمييز بين من بات إسمهم "الإسلام الأميركي" وبين الإسلاميين الحقيقيين. ولإبراز الوجه المضيء والثوري والتقدمي للدين الإسلامي، الذي حرر شعوباُ وأقام دولاُ عزيزة ولن يكون تابعاً وأداة في أيدي الصهيونية العالمية وحلفائها. والمعركة اليوم في الوطن العربي وفي العالم الإسلامي، هي بين التبعيين وبين الأحرار المقاومين في كل الساحات والبلدان.