أقلام الثبات
لم تأت العقوبات الأميركية على تركيا بسبب تحرش الأخيرة بزميلتها في الناتو اليونان، أو بسبب خرقها المياه الإقليمية لجارتها قبرص، ولا حتى بسبب تدخلها السافر في ليبيا، وشحنها للإرهابيين والمرتزقة عبر الخطوط الجوية التركية من سورية الى غرب ليبيا، ضاربة بكل الاتفاقات الدولية والاجتماعات الأممية لإحلال السلام في ليبيا عرض الحائط، وفي مقدمتها الاجتماعات التي ترعاها المبعوثة الأميركية ستيفاني ويليامز، إنما جاءت العقوبات الأميركية بسبب السلاح الروسي الذي تواجد على أرض تركيا الأطلسية.
أذا العقوبات الأميركية الأخيرة على تركيا، ما هي إلا رسالة من واشنطن إلى موسكو وليس أكثر، لذلك كانت تلك أول عقوبات توقع على تركيا ثم يرتفع بعدها سعر الليرة التركية أمام الدولا على عكس العقوبات السابقة، كما جرى بعد العقوبات الأميركية إتصالات بين واشنطن وأنقرة لطمانة تركيا بأن أمر العقوبات محدود ولا يستهدف الصناعات التركية، وهي تستهدف روسيا في المقام الأول والأخير.
أما العقوبات الأوروبية، فلم يكن هناك طرف جاد في أوروبا لمعاقبة تركيا على جرائمها سوى فرنسا واليونان، بينما نسفت المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل كل جهود الرئيس الفرنسي ماكرون في الأونة الأخيرة، كي تنتهي اللقاءات والمشاورات الأوروبية لمعاقبة تركيا بنتيجة صفر، في ظل إنحياز إيطاليا وأسبانيا إلى جانب المانيا لصالح تركيا، وهو نفس ما حدث في إجتماع ميد7 بجزيرة كورسيكا الفرنسية في سبتمبر/أيلول الماضي، حيث كان أول إحباط لماكرون من الأوروبيين، فأردوغان يعلم علم اليقين أن أوروبا لن تتوحد يوما، وأنهم جميعا كالخراف البيضاء أمرهم محسوم بعصا راعي البقر العم سام، في ظل الضعف الأوروبي أمام بريطانيا التي تتعمد كل يوم إهانة الاوروبيين منذ خروجها من الإتحاد، والتي وقعت اول إتفاق تجاري بعد خروجها من الإتحاد الأوروبي مع تركيا، مما جعل أردوغان يتوسع في أطماعه ليخطو أهم خطواته قبل عام الحسم لتركيا الأردوغانية عام2023م، مع ذكرى مرور مئة عام على "معاهدة لوزان" التي يراها أردوغان أنها كبلت الأمبراطورية العثمانية، وبإنتهائها بعد عامين من الأن سيكون في حل عن تلك القيود.
أردوغان يحاول أن يرتب أوضاعه في سورية مع روسيا على حساب ليبيا، فأنسحب من نقاط مراقبة عديدة لجيشه في شمال سورية، على حساب تتريك الأخرى، بعد أن سرق من تلك المدن التي تركها كل ما يستطيع بداية من الحجر وصولا للشجر كما فعل قدوته الغازي سليم الأول عند غزوه الشام ومصر.
ثم جاء الأخطر بعد تمدد المشروع الطوراني في القوقاز عبر سعي أردوغان لتشيكل تحالف إسلامي مناهض لتحالف "مصر، الإمارات، السعودية"، ففتح قنوات سرية مع أندونيسيا وماليزيا وباكستان، وفي الأخيرة وجد ضالته، مستغلا صراعها مع الهند، والضغوط الخليجية عليها للتطبيع مع إسرائيل (برغم التواصل السري القوي بين عمران خان وتل أبيب عبر مستشاره سيد بخاري)، بعد أن قررت باكستان تغيير إستراتيجية تعاملها مع السعودية، كي ترد للسعودية قرضاً بقيمة 3مليارات دولار، عبر ثلاث دفعات كل دفعة مليار دولار، فجاءت الاولى في يوليو/تموز الماضي والثانية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، والثالثة والأخيرة في يناير/كانون الثاني الجاري.
فأستقدم أردوغان باكستان في شرق المتوسط عبر مناورات بالذخيرة الحية، ثم في الملف الليبي عبر لقاءات متفرقة جمعت السفير الباكستاني في طرابلس والملحق العسكري مع قادة حكومة الصخيرات، وهي اللقاءات التي تمت بإشراف السفير التركي في طرابلس سيرحات أكسين، كي يحدث أردوغان توازن بين القوى النووية المتداخلة في المنطقة العربية التي يتم تقسيمها بوتيرة متسارعة منذ سقوط بغداد، بعد أن جلب باكستان(النووية) إلى شرق المتوسط وليبيا لتكون أمام فرنسا(النووية)، في الوقت الذي ألقى الخليج كل بيضه في سلة إسرائيل(النووية)، ويستعد فيه أردوغان لتدشين أول حاملة طائرات تركية بصناعة محلية، والتي ستحمل أسم "الأناضول"، والتي ستكون مهامها في شرق المتوسط، وهو يعلم أنه بمرور الأيام ستعود الليالي المخملية مع البيت الأبيض الذي ينتظر ولاية ثالثة لـ باراك أوباما متمثلة في شخص جو بايدن، ومأ أكد للتركي ذلك هي دعوة رئيسة الكونجرس نانسي بيلوسي لنظيرها التونسي والحاكم الفعلي لتونس راشد الغنوشي لزيارة واشنطن في الأيام المقبلة، في مشهد يؤكد أن ما بدأ في 2011م لم ينته بعد.
ولأن البراجماتية هي فصيلة دم أردوغان الحقيقية، لم يتردد في إرسال أكثر من إشارة إلى المجتمع الدولي بتخليه عن إيران، وما كان الإستقبال المهيب لرئيس وزراء العراق في تركيا 19ديسمبر/كانون الأول، إلا للتفرد بالعراق في ظل أنتظار ساعة الصفر لتكرار سيناريو العراق2003 ضد إيران، وهو ما جعل مصر تهتم بتفعيل "الشام الجديد" مع الأردن والعراق، كي لا تتكرر أخطاء الخليج مع العراق بعد 2003م، وأخطاؤهم الحالية مع الجزائر، مما جعل الأخيرة مجبرة بعد التطبيع بين المغرب وإسرائيل للإرتماء في حضن تركيا، برغم أن ما يربط الأخيرة بإسرائيل أضعاف ما بين إسرائيل والعرب مجتمعين.
خلاصة القول: لم ترسم أي من العقوبات الغربية الوهمية على تركيا نهاية العام 2020 أي عائق أمام سياسات أردوغان التوسعية، بالعكس صعدت بشعبيته في الداخل، في ظل دعم الدولة العميقة بواشنطن من جانب (ليس حبا فيه ولكن لإستنزاف روسيا وتمزيق العرب على يده)، ورفض بريطانيا سقوط تنظيم الإخوان المسلمين في أخر بلاد الخلافة من جانب أخر.
وفي كل الحالات سيبقى عام 2021م بداية الطريق لعودة الأمبراطورية العثمانية، وكلما مر الوقت من دون لجم الغازي العثماني الجديد يكبر "حلم" الذي راود الجيل من أبناء الإسلام الأطلسي، و "مشروع" تتم إعادة صياغته في مقر (الناتو) نفسه.