أقلام الثبات
الأزمة التي تُعانيها بكركي نتيجة حشر نفسها بالسياسة، تنسحب على كافة الصروح والمرجعيات الروحية في لبنان، مع خضوع المرجعيات الروحية الإسلامية الى توجهات الزعامات السياسية الطائفية، وعجز بكركي عن جمع الزعامات المسيحية تحت جناحيها.
لا شيخ العقل الجنبلاطي يُخالف سياسات المختارة، ولا شيخ العقل الإرسلاني يُناقض في خطابه لهجة خلدة، ولا المفتي يخرج عن المسار الإقليمي العام الذي يحكُم ظروف أهل السنَّة في المنطقة، ولا المجلس الشيعي يُحلَّق خارج سرب الثنائي السياسي والجماهير الشعبية، بينما مشلكة بكركي، أنها ما زالت تعيش تحت شعار "مجد لبنان أُعطي لها"، مع العلم أنه لا البطريرك صفير كان بقدرات الياس الحويك ولا البطريرك الراعي خليفة البطريرك عريضة، ورغم الخيبة، ما زالت عظة الأحد السياسية من بكركي، وكأنها نوع من الهروب الى الإمام من واجبات الصرح ومؤسساته، بما فيها الرابطة المارونية، عن القيام بأبسط الأمور من أجل الرعايا التي تُهاجر وتنزح وتحمل صليب جلجلتها في لبنان كما في سائر المشرق.
نفهم أن اتفاق الطائف الذي رعاه البطريك صفير، جاء نتيجة حتمية لهزيمة عسكرية قصمت ظهر المسيحيين، ونفهم أيضاً أن مصالحة الجبل لم تكُن سوى حلقة من مسلسل التكاذب المتبادل بين بكركي والمختارة، بنكهة النبيذ المُعتَّق الذي يتصدَّر لائحة الهدايا من كروم البيك الى بكركي، ومن كروم الأوقاف المارونية الى مقام البيك ولكن، ها هُم المسيحيون الآن يدفعون أثمان الطائف الملعون، وها هي معظم بيوتهم المُرمَّمة في الجبل خالية خاوية، لأن مصالحة تبويس اللحى هي أكذب مسرحية في تاريخ العيش الواحد والتعايش الشخصي على الورق وعلى كأس نبيذ، منذ زمن صفير الى زمن الراعي.
خسارة بكركي للشعبية السياسية المسيحية، بدأت من تبنِّي الطائف، ومن فشلها في تقويم إعوجاج تطبيقه الذي انتقص الكثير من حقوق المسيحيين، والخسارة الأكبر أن بكركي لم تتابع ميدانياً عبر مؤسساتها، وما أكثرها، حلّ معضلة العودة الى الجبل، الى أن جاء عهد الرئيس ميشال عون، وأيَّدت كلامياً مسألة مكافحة الفساد، لكن أبوابها بقيت مُشرَّعة لزيارات الفاسدين، سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين، ولم تُميِّز في سياسة تعاملها بين من هو آدمي ونظيف الكف، وبين من هو من أكلة المال الحرام ويده ملوَّثة بكل الموبقات والخطايا المميتة.
ولم تقتصر كبوات بكركي على حشر الأنف في السياسة، بل بات مذبحها منبراً للحديث عن الإقتصاد، وعن "الهيركات" و "الكابيتال كونترول"، ودخلت متاريس الدفاع عن المرتكبين وعن لصوص المال العام ومافيا تهريب الأموال، ثم وسَّع البطريرك الراعي دائرة إهتماماته ونادى بالحياد الإيجابي، الذي لم يجِد أحد تفسيراً واضحاً له، في بلدٍ نصف سكانه من اللاجئين والنازحين، وخيراته البحرية مهددة من العدو، ونزيف هجرة أبنائه لا يتوقَّف، وكل الناس خائفة من الغد الآتي، ولا استعداد لديها لسماع عظات ممجوجة لا تحمل لا الأمل ولا الرجاء ولا الدعم للطبقات المسحوقة، التي لا تعنيها فذلكات الموازنات ولا التنظير في إنقاذٍ سياسيٍ ممنوع.
وردَّة فعل الشارع الإسلامي على موضوع طرح "الحياد البطريريكي"، أثبتت أن كل البخور الذي أحرقته بكركي على مذابح الإسترضاء المجاني للشركاء في الوطن ولو على حساب المسيحيين، يُظهر وبكل أسف مشكلة بصيرة للأعظم الآتي على المسيحيين اللبنانيين، الذين يواجهون مصائرهم بلا نصير، ولن يكون مستقبلهم بعيداً عمَّا حصل لمسيحيي المشرق، ما دامت كرسي أنطاكيا تعاني من هزالة في قدرة التغيير العادل ضمن الداخل اللبناني، وتكتفي بلقب مندثر إسمه بطريركية أنطاكيا وسائر المشرق...