مقالات مختارة
بعد أن حُسمت نتائج الانتخابات الأميركية لصالح جو بايدن، وبعد أن بدأ الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب بحزم حقائبه لمغادرة البيت الأبيض، ينشغل العالم برمّته داخل الولايات المتحدة وخارجها بالتّكهنات والتوقّعات حول الحقبة المقبلة من تاريخ الولايات المتحدة التي ستُلقي بظلالها، ولا شكّ على سير الأمور في هذا الكوكب؛ إذ لا يختلف اثنان طبعاً أنّ الوضع الداخلي في الولايات المتحدة أكثر تعقيداً وصعوبةً من السنة التي دخل فيها ترامب البيت الأبيض، وأنّ تصدعاتٍ هامّةٍ بدأت تظهر في الداخل الأميركي تهدّد وحدة الولايات المتحدة وأمنها واستقرارها، وأنّ الجميع يتساءل عن إمكانية رأب هذه التصدّعات واستئناف الولايات المتحدة في لعب دورٍ بنّاءٍ على الساحة الدولية وربما عودتها إلى عددٍ من الاتفاقات والاتفاقيات الدولية التي انسحبت منها. ولكنّ السياسة في الولايات المتحدة هي سياسةُ الحزبين ويجب ألاّ يتوقّع أحدٌ استداراتٍ مفاجئة أو جوهرية؛ إذ ستحاول المؤسسات السّير في التوجّه ذاته إلى أن يتمّ إنضاج التحوّلات في الرؤى والخطط، مع حساباتٍ دقيقةٍ لإمكانية التنفيذ وللمصلحة الأميركية والغربية التي قد تتحقّق في النتيجة.
ولكنّ الذي قد يغفله البعض في هذه التوقّعات والدراسات هو أنّ قدراً كبيراً مما سنشهده على الساحة الأميركية سوف يعتمد على حركة الدّول أو الأطراف خارج الولايات المتحدة، لأنّ الغرب برمّته تمكّن من بناء امبراطوريّاته عبر التاريخ بناءً على نهب موارد وخيرات الشعوب والدول الأخرى، وبالأخصّ شعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية والجنوبية، وذلك نتيجة استكانة هذه الدول لآليات عملٍ وحكمٍ سمحت للمعتدي بالنّفاذ إلى عقر دارها والعبث بمصادر عيشها الأساسية.
وفي الوقت الذي شهدت فيه السنوات الماضية تململاً من نكوص الولايات المتحدة على توقيعها وتصويتها وأحياناً على مسارها المعهود في المنظمات والمحافل الدولية، وفي الوقت الذي بدأ الكثيرون بالتفكير في إيجاد مسارٍ دوليٍّ آخرَ يودي إلى عالمٍ متعدّد الأقطاب تتساوى فيه الدول صغيرها وكبيرها بالكرامة والاحترام والسيادة، نجد أنّ العامل الأهمّ في العالم، والذي مدّ يد العون للولايات المتحدة وربيبتها الكيان الصهيوني للاستمرار في طغيانهما وتفرّدهما بالقرارات الظالمة، هو للأسف ما قدّمته الدول العربية الرجعيّة على طبقٍ من ذهب ومن دون أيّ مقابلٍ، بل ومصحوباً بصفقات شراء سلاحٍ بمليارات الدولارات، لن تفيد أحداً سوى الصناعة الحربية الأميركية التي هي الأداة الأشرس في احتلال الأرض العربية وتمزيق عُرى العرب وتحويلهم إلى لاجئين ومهجّرين. ضُربت عرض الحائط بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني وبقرارات مجلس الأمن التي تنصّ على عروبة الجولان العربي السوري، ويُعتبر قرار الضم الإسرائيلي باطلاً ولاغياً ولا قيمة له.
أو ليس من اللاّفت أن يكون الأعراب أشدَّ كفراً بالقومية العربية، رغم أنّ أمّتهم هي الأكثر تضرراً من سياسات الولايات المتحدة في المنطقة، وأن يكونوا هم الذين يُطيلون في عمر امبراطوريةٍ تتفكّك من الداخل؟ وذلك في الوقت الذي تسعى فيه معظم دول العالم إلى إيجاد صيغةٍ دوليّةٍ بديلةٍ لهيمنتها على القرار الدولي وإجراءاتها القسريّة الظالمة ونظام العقوبات اللاشرعية التي مردت على فرضها على دولٍ عديدةٍ كوسيلةٍ للابتزاز والقهر وقبض الأثمان في اللحظة التي تناسبها؛ كيف يتحوّل السودان وبلحظةٍ من دولةٍ راعيةٍ للإرهاب إلى دولةٍ لا علاقة لها بالإرهاب، فقط لأن حكومته العسكرية الانقلابية قد رضخت للشروط الإسرائيلية واستسلم حكّامها الجدد، وغضّوا النّظر عن انتمائهم القومي كي يفوزوا برضى سيّدهم الأميركي؟ وكيف يُحسم الصّراع بخصوص الصحراء الغربيّة برسالةٍ على تويتر يقرّر من خلالها حاكم البيت الأبيض أنّ الصحراء الغربية مغربيّةٌ وليست جزائرية؟ أو ليست هذه الأمثلة وغيرها دليلاً على أنّ هذه العقوبات والإجراءات التي تتّخذها الولايات المتحدة بحقّ الشعوب والبلدان، ما هي إلاّ أداةً إجراميةً للابتزاز إلى حين ينفذ صبر الضحيّة فتؤدّي الطاعة، وحينذاك تُرفع العقوبات وتنتهي الاتهامات بالإرهاب أو مساندته؟
بيت القصيد إذاً من كلّ العقوبات القسريّة والإجراءات وقوائم الاتّهام بالإرهاب ومساندته التي تصدرها الولايات المتحدة، هو تطويع الشعوب لتمتثل لإرادتها أو إرادة من ترتأي، مثل الكيان الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط وعملاء آخرين في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا.
أو لا يعني هذا أنّ كلّ الإجراءات الأميركية بحقّ البلدان الأخرى وكلّ أحكامها في المنظمات الدولية وغيرها، لا مصداقيّة لها ولا أسس قانونية أو شرعية دولية لها، وإنما هي إجراءاتٌ وقوائمُ مجهزّةٌ من أجل الابتزاز وقبض الأثمان ونهب الموارد وتنصيب الخونة والعملاء الممثّلين عنها وعن مصالحها حيثما أمكن ذلك؟
أو ليس هذا مبرّراً كافياً لكي نفقد الثقة بهذا النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ولكي نعمل جاهدين مع كلّ الآخرين الذين يشاطروننا التقييم من أجل استبدال هذا النظام القائم بنظامٍ أكثر عدلاً واحتراماً لإرادة الشعوب، بدلاً من الارتماء في أحضانه كما تفعل الحكومات الرجعيّة المهزوزة التي تدفع له المليارات كي يتمكّن من الاستمرار ولو على الأوكسجين، ولو لفترةٍ محدودةٍ حتماً مهما طالت أنفاسه؟
المؤلم في المشهد هو أنّ العرب الذين هم الأكثر تضرراً على الساحة الدولية من غطرسة الولايات المتحدة واستخدامها القوة والإرهاب لتدمير بلداننا من العراق إلى ليبيا وسوريا واليمن، هم الأعراب الذين يرفدونها بإكسير الحياة وبالمال اللاّزم لاستمرار ظلمها ضد الأمة العربية وغطرستها على المستوى الدولي، ظنّاً منهم ربما أنّ هذا سيوفّر لهم سبل البقاء والقوة، ولكنها فترةٌ مؤقتةٌ إلى أن تسلبهم كلّ مواردهم، ومن ثمّ يواجهون المصير نفسه الذي واجهه أسلافهم بعد أن غرّرت بهم لتبديد ثرواتهم بحروبٍ لا طائل منها، ثمّ ألقت بهم في حُفرٍ مظلمة.
العالم يستعدّ لاستقبال عامٍ جديدٍ نراقب، بفرحٍ لهم وبحسرةٍ على واقعنا، الحركات التحرريّة في أميركا الجنوبية وصعود الدول الأفريقية وانطلاق التّنين الصيني والحضور الروسي على الساحة الدولية وحضور منظمة "آسيان" وإدراكها لكلّ المتغيّرات الدوليّة وتعاملها الواعي والمبصر لها، بينما نرى الأعراب يستسهلون دفع المليارات والارتماء في أحضان عدوٍّ إسرائيليٍّ، هم هدفٌ أساسي من أهدافه. قد لا يدركون اليوم، ولكنهم سيدركون بعد فوات الأوان أنهم لم يحظوا أبداً بالندية والاحترام مهما قدّموا من تنازلاتٍ ومهما ركعوا تحت أقدام العدو ومهما تخلّوا عن إخوانهم ولغتهم وعروبتهم، على العكس فإنّ هذا التخلّي سيكون السّهم الأشدّ الذي سيُصيبهم في الصميم ولا يُبقي لهم باقيةً على الإطلاق.
حسابات العام الجديد لدى كلّ البشر تنطلق من الرأسمال السياسي أو المالي أو البشري أو الفكري أو المجتمعي الذي تمكّنوا من تحقيقه، ولا تنطلق من استرضاء دول النهب الاستعمارية والتعويل على ابتساماتهم ومودّتهم المؤقّتة والمدروسة كي تحقّق أهدافاً محدّدةً لها، ثم يرمون بهم في نفايات التاريخ غير آبهين بوعودٍ أو باتفاقياتٍ، حتى وإن كانت موقّعة؛ فهم أسياد الموقف وهم الذين يقرّرون ويديرون دفّة التاريخ في منطقتنا. ولا لومَ عليهم لأنهم يسعون إلى تحقيق مصالحهم، ولكنّ اللّوم كلّ اللّوم على من فرّط بمصالحه ومصالح وحقوق إخوانه وأشقائه وشنّ حروباً عليهم كي يرضى عنه الأعداء والخصوم.
صدق الشاعر العربي حين قال: "من يهنْ يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلامُ". لقد تمكّن ترامب وكوشنير من جرجرة دول الأعراب إلى اتفاقاتٍ تخطّ نهاية من اجترحوها، آملين بتغيير وجه المنطقة وهويتها، ولكنّ هذه الأمّة ما زال بها أحرارٌ مؤمنون بمصيرها، سيتحملون أعباء إنقاذها من براثن المهزومين والمتوارين، وسيعيدون إحياء نبضها لتعمل مع قوى عالميةٍ أخرى يقظةٍ ومتحفّزة لتغيير وجه الظّلم من هذا العالم، وإرساء أسس عالمٍ جديدٍ ننعم جميعاً به بمعايير سياسيةٍ وإنسانيةٍ تليق بكرامة الإنسان ومصداقيّة الدول.
د. بثينة شعبان ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً