أقلام الثبات
تبدو قفزة الرئيس سعد الحريري على حصان التكليف بتشكيل حكومة تخلف حكومة حسان دياب المستقيلة، ثم هجمته لفرض حكومة أمر واقع على الرئيس ميشال عون، ناقصة، تحتاج لتكتمل فصولها المسرحية إلى مشهد أكثر مأساوية. وهذا المشهد هو فتح معركة رئاسة الجمهورية مبكراً وتقدم سمير جعجع الصفوف والترشح، بثبات وثقة، لإنتخابات رئاسة الجمهورية، التي تبعد عن أيامنا هذه مسافة سنتين، لكن جعجع وغيره من أخصام الرئيس ميشال عون، أو الذين ينازعونه للجلوس مكانه على كرسي بعبدا، يريدون إختصارها بإطلاق حملة لإقالته تحت شعار إرحل، أو بتقديم نصيحة له ليستقيل بناء لطلبهم، فأمامهم مخططات يريدون تنفيذها، يهيئهم لها داعموهم من خارج الحدود. إلا أن صراعهم المتوقع على من يكون الخلف، يؤخر إطلاق مثل هذا "المانيفستو"، خصوصاً أن التجارب السابقة بينت أن هؤلاء "الحلفاء" سرعان ما يتخلون عن بعضهم البعض، حسب مقتضيات أوامر الخارج.
هذا الوجه المحلي للصراع، يتكامل مع الآتي من الخارج ويطبق على أعناق اللبنانيين"بكماشتين: الأولى تشكل الضغوط والعقوبات الأميركية والغربية والخليجية فكها الخارجي، لإجبار لبنان على الخضوع للإملاءات الأميركية والمطالب والمطامع "الإسرائيلية"، في الأرض والمياه والثروة النفطية والغازية اللبنانية؛ وبالغاء وجود المقاومة وسلاحها. على أن يترجم هذا الخضوع بالإنضمام إلى طابور منفذي أوامر التطبيع ومستلزماته مع العدو "الإسرائيلي". في حين يتشكل الفك الداخلي لهذه الكماشة، من الأطراف السياسية المحلية المعادية للمقاومة، التي لطالما صنفت الكيان الصهيوني بانه "جار" ولم تعتبره يوماً عدواً. كما تتألف من الجهات الإقتصادية التي تلاقي، من الداخل، العقوبات الأميركية والضغوط الخليجية، على لبنان عموماً للوصول عبرها واستهداف المقاومة وكل من يؤيدها ويحالفها من اللبنانيين.
بيد أن هذا الإطباق الممنهج، الذي كشف عن عناصره بالتطورات المالية والإقتصادية التي جرت بدءاً من صيف العام 2019، ليس هو الوحيد الضاغط على لبنان واللبنانيين، فهناك "الكماشة" الداخلية التي تتشكل على قاعدة حماية النظام الطائفي القائم من السقوط، بتأثير إنكشاف حقيقة أنه صانع للفساد في البلاد وحامي الفاسدين من المساءلة والملاحقة. خصوصاً أن لبنان حالياً يشهد مسرحية تدعي محاربة الفساد والفاسدين والبحث عنهم، كأنهم أشباح غير مرئية وليسوا أشخاصاً معروفين، فهم رموز تحالف زعماء الطوائف وأصحاب المصارف وكبار الأثرياء. والحرب على الفساد هي كلام حق يراد به باطل، لأن الصراع الداخلي بين مختلف القوى الطائفية يقوم على قاعدة "قم لأقعد مطرحك"؛ ولا يسمح له بأن يهدد تركيبة النظام. فالمطلوب تغيير اشخاص واستبدال قوى باخرى لخداع اللبنانيين والقول لهم أن تغييراً قد حصل. لأنهم يدفعون ثمنه من أموالهم وأرواحهم ودمائهم.
هكذا حصل عندما قرر كميل شمعون أن يكون رئيساً للجمهورية، في وجه "بطل" الإستقلال بشارة الخوري، الذي عاث شقيقه السلطان سليم فساداً في البلاد، فكانت التضحية بالشخص لحماية إستمرار النظام. ولتثبيت حكمه وأسس النظام الذي يمثل، قام شمعون بمغامرات سياسية على مستوى الإقليم؛ وصلت إلى حد إستدعاء تدخل عسكري أميركي ضد أعداء النظام، الذين تماهوا مع التغيير الحاصل في المنطقة في ذلك الوقت، بفعل رياح الثورة الناصرية في مصر.
وهكذا حصل عندما قرر فؤاد شهاب إقامة دولة قانون ومؤسسات، بدلاً من الدولة المزرعة التي تتوارث إدارة لبنان منذ الإستقلال. فوقف في وجهه "أكلة الجبنة"، كما سماهم. وقام فريق سياسي بمحاولة إنقلاب عسكري عليه، جرى إفشالها بعد إيصال الرسالة إلى شهاب، بأن البديل عن نظام مزرعة الطوائف هو دخول لبنان عصر الإنقلابات. فأختار شهاب العودة إلى بيته بدلآ من مواصلة حلم بناء الدولة. وكان بنتيجة ذلك أن بعض من أقيل من وظيفته بحملة التطهير المشهورة ضد الفساد، انتخب نائباً أو عين وزيراً أو مديراً.
وعندما تأثرت توازنات الداخل بوجود المقاومة الفلسطينية، تدخل الخارج وشكل تحالفا هجيناً من رموز الطوائف، أطاحوا بالشهابية وباكثريتها النيابية؛ وجاؤوا بالرئيس سليمان فرنجية، الذي وقف في وجه رياح التغيير السياسي والإجتماعي. وشكل الأرضية المناسبة لاستقواء "الحلف الثلاثي" وإشعاله "حرب تحرير لبنان من الغرباء"، التي دمرت البشر والحجر. وشكلت مقدمة لمغامرة بشير الجميل الذي استدعى غزوا "إسرائيلياً" أوصله إلى سدة الرئاسة. وهذا النموذج تشير كل الدلائل إلى أن سمير جعجع يتمثله لإيصاله إلى كرسي الرئاسة في بعبدا. فجعجع يعرف أنه غير قادر بقوته أن يصبح رئيساً. ولا حتى بتحالفاته الداخلية. وهو ضغط ويضغط لإفراغ قصر بعبدا من شاغله؛ والإستفادة من الهجمة الأميركية والخليجية لتسليم قيادة المنطقة للكيان الصهيوني. وهذا لا يتم إلا عبر التخلص من المقاومة في لبنان، باعتبارها العقدة المستعصية في خطة ضرب قوى المقاومة المحيطة بفلسطين المحتلة. وجعجع جاهز بعسكره وتحالفاته ليكون الغطاء الداخلي للغزو الخارجي.
وهذا الأمر هو كلمة السر في الفوضى الحاصلة؛ وفي ضربات "الفاول" السياسية والقضائية التي تسقط هيبة الدولة وفكرتها. وتزيل الحد الأدنى من إحترام المؤسسات من أعين اللبنانيين. وتترجم في دعوة البعض عن وعي والبعض الآخر عن جهل، إلى تدخل خارجي ينقذ لبنان من "مافيا الفساد"، تحت حجة "تصادم مافيات الداخل مع مافيات الخارج". وكأن الخارج جمعية خيرية تقدم خدمات مجانية وليس قوى تفرض نفوذها ووصايتها واحتلالها؛ وتسيطر على الثروات والمقدرات. فهل يسقط بعض اللبنانيين مجدداً في مستنقع الخيانة ويستعينوا بالخارج لتنفيذ أجنداته، مقابل كرسي لن يدوم لهم، مثلما لم يدم لغيرهم؟