أقلام الثبات
ليست المرة الأولى, التي يواجه فيها حكم الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، الغضب الشعبي، بسبب قرارات حكومته, ومشاريعها تحت مسميات قانونية، الا ان هذه المرة تكتسب اهمية خاصة، لا بل محورية لأن القرارات الأخيرة تحت عنوان "الأمن الشامل " يمكن ان تطيح نهائيا بصورة "الديمقراطية الغربية " المغطاة بغشاء ضلالي، طالما تستر الغرب خلفه .ويمس هذه المرة ايضا، جوهر ثقافة المجتع الفرنسي كله، وليس كما السابق، فيما يتعلق بالمسلمين والحجاب، وغش الجمهور الفرنسي الاصلي .
قبل سنتين بالضبط اجتاحت شوارع مئات المدن في العالم مظاهرات الغضب من الإساءات الفرنسية وموقف الرئيس إيمانويل ماكرون منها, فمن العاصمة الإندونيسية جاكرتا إلى مدينة نيويورك الأميركية، ومن العاصمة الصومالية مقديشو إلى مدينة تورنتو الكندية مرورا بفلسطين ولبنان والهند وباكستان وأفغانستان وغيرها من الدول الإسلامية عبر ت الشعوب عن غضبها، وهذا النوع من التظاهرات تجدد منذ اسابيع مع اعادة اطلاق ماكرون النفحة العنصرية ضد الاسلام بسبب مقتل استاذ على يد طلابه وهو امر مدان بلا شك، الا ان ماكرون وحكومته الذين يحاضرون في العفة، تلطوا خلف الحادثة، وبثوا سموم العداء تحت شعار "الاسلاموفوبيا", لكن ردة الفعل الدولية، ولاسيما في الشارع العربي والإسلامي، وتوجيه الانتقادات اللاذعة للتصرفات الفرنسية، دفعت القيمين على السياسة الفرنسية للقيام بمحاولة احتواء الأصدقاء الغاضبين من جهة، والعمل على اتخاذ اجراءات تطال الجمعيات الاسلامية والمساجد في فرنسا من جهة ثانية .
لقد واجهت فرنسا أيضاً موجة واسعة على مدى عشرات الأسابيع تظاهرات "السترات الصفراء" احتجاجًا على الإجراءات التى اتخذتها الحكومة الفرنسية، ومن بينها الزيادة فى أسعار الوقود، حيث استمرت أعمال العنف بين المتظاهرين وقوات الشرطة، وسقط قتلى وجرحى في عمليات القمع الممنهج، إضافة إلى مئات المعتقلين الذين كانوا يعبرون عن الألم جراء تراجع القدرة الشرائية، في وقت كانت فرنسا والغرب عموما يغذون حركات الاعتراض، لا بل يصنعونها في وجه الانظمة التي لم تر في الغرب ما يسر القلب .
ان الغضب الشعبي الذي اجتاح المدن الفرنسية الاسبوع الماضي رفضا لمشروع قانون الامن الشامل لحماية قمع الشرطة, بعد نشر فيديو يظهر مجموعة من رجال الشرطة يضربون منتجا فنيا تشبه ما فعلته الشرطة الاميركية بالرجل صاحب البشرة الداكنة، وهي مشاهد تعكس مدى تناقض شعارات الديمقراطية مع التطبيق، الأمر الذي يكشف زيف ادعاءات الديمقراطية في مدارج مهدها المفترض, سيما ان غالبية أعضاء الحكومة أعلنوا تعديل الفقرة الرابعة والعشرين في قانون الأمن المثيرة للجدل التي تقيد نشر صور لضباط الشرطة أثناء عملهم، مع فرض عقوبة بالسجن لمدة عام واحد، وغرامة قدرها 45 ألف يورو على أي شخص ينشر صوراً لضابط شرطة تبين "وجهه أو أي علامة تعريفية" أثناء أداء وظيفته من أجل "إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي به". لا بل ان الرئيس الفرنسي تمادى في الدفاع عن اجرام الشرطة، رغم اعلانه أن حكومته ستراجع تقييم قانون الأمن الشامل برفضه اتهام حكومته بالجنوح إلى التعصب والتوجهات المنافية لليبرالية بمشروع قانونها لحماية الشرطة، وحملتها على الجماعات الإسلامية,قائلا :"اليوم الوضع غير مرض لكن، عذرا، هذا لا يجعلنا دولة ديكتاتورية"... لا يمكن أن أسمح بأن يقال إننا نقيد الحريات في بلادنا".
مجرد استخدام كلمة :"لا اسمح"، وهي موجهة للشعب الفرنسي,تظهر مدى "الايمان الزائف" بالديمقرطية، وليس فقط ممارستها، ولقد هتف المتظاهرون بقوة احتجاجا : "كفى ماكرون, لا, لا, لقانون الامن، نعم للامن الاجتماعي ", واللبيب من الاشارة يفهم.الا ان وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانين رأى أن "المخربين يخربون الجمهورية",وهو يقصد المحتجين على القمع .
ان زيف الديمقراطية الغربية، تجلى اكثر في الانتخابات الاميركية التي كان ابرز عناوينها قبيل انطلاقها تفشي العنصرية مثل "كوفيد 19",مع تمادي الشرطة في قتل أصحاب البشرات الملونة، لتنفجر صورة الشرطة وتتشظى مع انتشار قتل جورج فلويد الذي كانت اخر كلماته وهو يلفظ انفاسه تحت أرجل الشرطي، "لم أعد قادرا على التنفس "شعارا عالميا ولا سيما في المجتمعات الغربية التواقة للانعتاق من أكاذيب الأنظمة عن الحرية والديمقراطية، بالتوازي مع فشل النظريات الاقتصادية الغربية في حل القضايا الاجتماعية، ولا سيما الأمن والاستقرار الاقتصادي، وهذا اهم ابواب استقرار المجتمعات، الى جانب الحرية والديمقراطية بمفهومها الصحيح.
عليه, يمكن القول بلا تردد ان الولايات المتحدة الأمريكية والاقتصاد العالمي,يعيشان الفصل الأخير من كتاب النظام الامبريالي في شكلهما الحالي، وبالتالي فان انهيار الاقتصاد الأميركي والنظام الاقتصادي العالمي ككل هو أمر حتمي.ولذلك سوف يتصاعد قمع الحريات والابتعاد عن ظلال الديمقراطية، في محاولة صراع البقاء ولو على الجثث، رغم اليقين بأن لكل نظام نهايته.