أقلام الثبات
أدخل الرئيس سعد الحريري نفسه في حقل الغام تشكيل حكومة، يعرف وغيره، أنه ليس هو الذي سيؤلفها، بل أن الوصاية الفرنسية والأميركية هي مالكة مفتاح باب الدخول إليها، إذا قدر لها إخضاع اللبنانيين، تحت ضغط العقوبات الأميركية القائمة والفرنسية الملوح بها. وتحت ضغط بعض الداخل، الذي تعود على خدمة سياسات الدولتين المذكورتين في الشأنين اللبناني والإقليمي.
يكرر الحريري تجربة مصطفى أديب برفع شعار "حكومة المهمة" حسب التوصيف الفرنسي لحكومة "الإنقاذ" المزمع تشكيلها. وصار معروفاً أنه يريد أن يشكلها بمعزل عن رأي وتدخل رئيس الجمهورية ميشال عون، بما يعني أن الحريري يريد سلب عون آخر ما تبقى من صلاحيات بقيت له بعد إتفاق الطائف. والهدف واضح، شق صف تحالف عون حزب الله، وإبعاد حلفاء الحزب عنه تحت ضغط العقوبات الأميركية، لتحقيق الهدف المرحلي الذي يصر عليه الأميركيون ويعطلون لأجله تشكيل الحكومة؛ وهو محاصرة حزب الله ومنعه من المشاركة في أي حكومة جديدة. فيما الهدف الأبعد ضم لبنان إلى طابور الحكام العرب الزاحفين لنيل رضا الإدارة الأميركية، بالخضوع لإملاءاتها وإعطائها ثروات شعوبهم. وكذلك إرضاء قادة العدو "الإسرائيلي" بالتنكر لفلسطين شعباً وقضية. وإقامة علاقات مع هذا العدو وتبادل التمثيل الدبلوماسي والتنسيق الأمني معه. وعنوان ذلك لبنانياً، القبول بالشروط الأميركية وتلبية المطامع "الإسرائيلية"، في الأرض والمياه والثروة النفطية اللبنانية، القابعة عند الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة. وكذلك القبول بتوطين اللاجئين الفلسطينين والنازحين السوريين.
والحريري في هذا المسار لا يبتدع جديداً، فهو يواصل السياسة الحريرية التي أوقعت لبنان عن سابق تصور وتصميم، في الدين الداخلي ثم الخارجي المدولر، لجعله مرتهناً للخارج، تحت دعوى أن تخليص لبنان من حكم الميليشيات والأحزاب، الذي كان قائماً بعد حرب العام 1975 وقبل إتفاق الطائف، يتم عن طريق المال. بحجة أن "السلام الآتي" سيتكفل بسداد الدين.
لم يتنبه كثيرون إلى ما رمى إليه ذلك الإدعاء. وظنوا أنه يعني نشر البحبوحة والإزدهار بين اللبنانيين، تشجيعاً لهم للإبتعاد عن أجواء الحرب الأهلية. لكنهم عرفوا بعد فوات الأوان، أن المعنى عكسي تماماً، لأنه عنى نهب لبنان وإغراقه بالديون، ومن ثم إفقار شعبه لإجباره على القبول بمستتبعات "السلام" الذي تفرضه أميركا على المنطقة. وتنصب بموجبه الكيان الصهيوني اللقيط، قائدا عليها وحاكماً لحكامها.
وبما أن "السلام" المذكور قد حل بتقاطر أولياء نعمة الحريري، من أمراء النفط الخليجيين ومن يتبعهم بالمال، على زيارة عاصمة الكيان الذي يحتل فلسطين ويقدمون لها كل متطلبات الطاعة والخضوع، بات بإمكان الحريري قطاف ما زرعته الحريرية السياسية خلال العقود الثلاثة الماضية. ولذلك قدم مشروعه في أواخر أيام حكومته السابقة لبيع أملاك الدولة ومؤسساتها. وهو يعود هذه الأيام ليقدم أوراق إعتماده للأميركيين والسعوديين الغاضبين من فشله في تنفيذ مطالبهم. لعله يحقق لهم مرامهم ويحفظ دوره السياسي والمالي المهدد، في حال فشلت الخطط الأميركية المولة سعودياً، لإلغاء آخر المواقع المقاومة في ارض العرب.
ويكررالحريري في هجمته الجديدة للعودة إلى السرايا، ما فعله والده الراحل في ثمانينيات القرن الماضي، من لعب ومضاربة بالدولار وضرب لقيمة الليرة اللبنانية، بما أتاح له تقمص دور المنقذ، بعد إقرار إتفاق الطائف. إذ أن المضاربة على الليرة حينها أوصلت سعر الدولار الأميركي إلى حدود الثلاثة آلاف ليرة، ليتم تخفيض قيمته عند تكليف الحريري برئاسة الحكومة، للمرة الأولى؛ وتثبيت سعره عند ألف وخمسمائة ليرة. وهذا ما يحاوله الحريري الإبن هذه الأيام، إذ أن سعر الدولار يرتفع كلما تعقدت الأمور معه. وينخفض كلما تسهلت مساعيه السياسية. ليتم تكرار السيناريو القديم ذاته، عندما يشكل الحريري حكومة فيتم تثبيت سعر الدولار على سعر أقل من سعر المضاربة، لكن بالتاكيد ليس سعره القديم (1500 ليرة). لكن كل هذه الألاعيب تبدو عديمة المفعول أمام إنفضاح هذا المشروع. وأمام صمود وثبات القوى السياسية المعنية، في وجه التسلط الأميركي ومحاولة تجديد الإنتداب الفرنسي، مما يجعل الحريري كبالع الموسى، لا هو قادر على الإعتذار عن التكليف بتشكيل الحكومة، لأن ذلك يعني إنتحاره سياسياً. ولا هو قادر على تخطي القوى السياسية الداخلية، لأن ذلك فوق طاقته. ولا هو قادر على إغضاب قوى الخارج، لأنها ستضمه في هذه الحالة إلى لائحة المستهدفين بعقوباتها، في حين أنه لا يستطيع أن ينسى ولا أن يتحمل تكرار العقوبة الشهيرة، التي سجنته فيها السعودية وأجبرته على تلاوة بيان إستقالة حكومته، الذي سرعان ما تراجع عنه عندما تمكن ضغط "أخصامه" اللبنانيين من تحريره من أيدي "حلفائه" في الرياض.
مهمة سعد الحريري هذه المرة تبدو فال نحس على مشروعه وحتى على مستقبله السياسي. فهل يمد يد التعاون لأطراف الداخل اللبناني، فيخرج من ورطته، أم يبقى منفذاً لإملاءات الأميركي والفرنسي والسعودي، التي بات من المؤكد أنها لن تمر هذه المرة، بفعل وجود المقاومة وصلابة تحالفاتها.