أقلام الثبات
يبدو السواد الأعظم من اللبنانيين مقهور ومنبوذ كيتيم على مادبة اللئام، لا حول له ولا قوة يدرأ بها حالة الإطباق والإستضعاف، التي نفذتها بحقه شبكة المتحالفين من رموز الفساد والتسلط، الحاكمين باسم المال والأعمال وباسم حماية الطوائف من مزاعم الأخطار المحدقة بها، بالتكافل والتضامن من زعيمة الكون عدوة الشعوب: الإدارة الأميركية ومن يواليها.
ولعل هذا الإحساس بالهزيمة، هو سبب تعامل المواطن اللبناني مع وباء كورونا المتفاقم باستهتار صادم. فعوامل اليأس وإنهيار الآمال وسقوط الرهانات، حولت اللبناني إلى ضحية يشبه خروفاً تجمدت عيناه وهي ترقب سكين الجزار، بعدما روضته القوى السياسية والحزبية، فاقتنع بأنه أعجز عن أن يغير شيئاً في هذه التركيبة السياسية الحاكمة، المفروضة عليه بقوة المال والسلطة والعائلة والعشيرة؛ وباستغلالها كل عناصر الإستتباع بما فيها الدين والإيمان وجلّ العقائد المتداولة. وكذلك حاجة المواطن إلى الهرب من البطالة والفقر، في زبائنية هو الطرف الأضعف فيها، بما يجعله منفصم الشخصية السياسية، يتكلم في واد ويمارس السياسة في واد آخر.
وليس منطقياً أبداً وضع التسليم والخضوع الذي يعيشه اللبنانيون هذه الأيام، فهل يعقل سكوت شعب سرقت المصارف أمواله ودينتها بفوائد خيالية للحكومات الفاسدة المتعاقبة، التي صرفتها بدورها على الصفقات والسرقات والإختلاسات والتوظيفات غير المنتجة. وعندما وصلت الأمور إلى حد الإفلاس، أسرعت المصارف والسياسيين الأغنياء إلى تهريب أموالهم إلى الخارج. وكل الوزراء والنواب أغنياء بفعل السنوات الطويلة التي يمضونها في مناصبهم، التي تدر عليهم رواتب دسمة وصفقات مربحة تحولهم بين ليلة وضحاها إلى أثرياء. وإسراع هؤلاء في تهريب أموالهم إلى خارج لبنان، حقق لهم هدفين في وقت واحد: تأمين أموالهم الحرام التي جمعوها من تعب وعرق اللبنانيين؛ وتنفيذ المطلب الأميركي بتجفيف لبنان من العملة الصعبة، تطبيقاً للعقوبات الأميركية بحق لبنان، لأن بعض اللبنانيين يمارسون حقهم الطبيعي في الدفاع عن بلدهم في وجه العدوانية الصهيونية.
وليس منطقياً كذلك، أن شعباً يعرف ويردد منذ قرابة ثلاثة عقود، أن حجة إعمار ما دمرته الحرب، كانت ستاراً لنهب أموال البلاد ومصادرة ثروات الناس. وأن ذلك كان من ضمن تقاطع مصلحة السراق من رموز السلطة، مع مشروع أميركي-غربي- عربي، لإخضاع ارادة وفعل المقاومة عند اللبنانيين، فيقبلون صاغرين تحت سيف الإفقار والتجويع، بالإنضمام إلى مشاريع الولايات المتحدة الأميركية لتسليم المنطقة العربية ورقاب شعوبها إلى الغزاة الصهاينة، المدججين بكل ما تنتجه الصناعات العسكرية الأميركية من أسلحة حديثة.
من المسؤول عن هذا الخنوع وهذا الإحباط؟ وهل هناك خنوع أكثر من سكوت اللبناني المستضعف أمام فرمانات الحاكم بامره في مصرف لبنان، الذي استكمل العقوبات الأميركية بعقوبات من عنده قضت بتجفيف البلد من العملة المحلية!
ومن يضمن أن الإنفجار لن يحصل في لحظة ما، إذا قدرت للناس قيادة صادقة تقودها لتحاسب ظالميها؟ بالتأكيد، إذا حصل سيحرق الأخضر واليابس، بعدما فقد اللبناني الأمل بكل الموجود ولم يعد يثق بمسؤول أو زعيم أو حاكم، فهو يعرف أن تحالف زعماء الطوائف وأصحاب المصارف، المسؤول عن سرقة الخزينة والناس وعن تدهور حالة الوطن إلى الدرك الذي وصل إليه، ليس شبحاً أو شيئاً بعيداً عن الوصف، بل أن مجلس النواب هو مصدر السلطات وهو مصدر الفساد. ولتجرؤ الكتل النيابية على نشر أسماء أعضائها الذين ليسوا في مجالس إدارة مصارف تعمل في البلاد. أو الذين أوقفوا أعمالهم الخاصة خلال توليهم مناصبهم ونيلهم رواتبها. وهؤلاء النواب هم في حقيقة أمرهم، كما يعترف كثير منهم، موظفون نواباً عند النواب الفعليين، الذين يقل عددهم عن عدد أصابع اليدين. وهم زعماء الكتل والطوائف والأحزاب المسيطرة على التمثيل النيابي. وهؤلاء هم الذين يختارون الوزراء، الذين يديرون الصفقات والإلتزامات والتوظيفات وكل أبواب الهدر والسرقة والإثراء غير المشروع.
والواقع غير المستغرب، أن هذا التحالف الذي لم يهتز له جفن وهو يرى جوع اللبنانيين وآلامهم، هو من الذكاء بحيث أنه كالحرباء يغير لونه وخطابه وتحالفاته وعداواته حسب حاجته. ومثلما خدع اللبنانيين بعد 17 تشرين من العام الماضي، عندما إنقسم إلى فريقين: واحد "ثائر" على السلطة وآخر تولى حمايتها، ها هو اليوم يلهي اللبنانيين بخبريات تشكيل الحكومة والمحاصصة وتوزيع المقاعد الوزارية، متجاهلاً ما يعانيه المواطن من الأزمة الإقتصادية ومن العقوبات الأميركية، التي ما كان لها أن تكون بهذا التأثير، لولا سرقة الحكام وإختلاسهم لأموال الشعب والدولة.
والأخطر في ما يواجه اللبنانيين، أنهم خلال أيام سيكونون أمام حكومة هي نسخة عن الحكومة التي تآمرت عليهم قبل حراك 17 تشرين. وسيكون برنامجها هو البنود ذاتها التي دفعت اللبنانيين إلى الشارع، قبل أن يكتشفوا الخدعة بسرعة وينسحبوا إلى بيوتهم.
فالحريري سيقود حكومته الجديدة وفق ما أعلن أكثر من مرة، ووفق ما يمليه عليه الخارج، ألأميركي تحديدا والسعودي إذا رضي عنه. وهو سيلتزم بورقة صندوق النقد الدولي، التي تنص على: تحرير سعر صرف العملة، تقليص حجم القطاع العام، زيادة الضغط الأميركي لحصار المقاومة، تحت لافتة ضبط الحدود؛ وزيادة أسعار المحروقات. وكذلك سيتم المس بتعويضات وتقديمات المتقاعدين، مدنيين وعسكريين. في حين أن تمسك الحريري بالسياسة المالية الريعية ستعني مباشرة، أن لا يحلم اللبناني بحل مشكلة الكهرباء ولا الدين العام، الذي سيزداد بفعل ديون "سيدر" وصندوق النقد. كما أن المال المنهوب لن يعود، فالحريري هو صاحب مصرف ومساهم في مصارف أخرى. ومن ورث أرض وشركة "سوليدير" المنتزعة عنوة من أصحابها ومن الأملاك البحرية العامة، سيحلم دائماً بالإستيلاء على مثيلتها، خصوصاً أنه مصر على بيع أملاك الدولة. وبالنتيجة، فإن اللبناني معرض لعملية سطو جديدة قد تجعله يترحم على ما مضى.