فجأة يجد لبنان نفسه أمام اهتمام فرنسي غير مسبوق بنوعه وحجمه وعمقه، تحرك يقوده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شخصياً، وينفذ وفقاً لخطة عمل واضحة مقترنة بجدول زمني لا يحتمل المماطلة والتسويف، ما يؤكد جدّيتها البعيدة المدى ويظهر انّ صاحبها قرّر ان ينجح ولا يتقبّل فكرة الفشل في التحرك، فرصيده الشخصي في الميزان كما قال. انه الاهتمام الفرنسي بلبنان الذي يثير أسئلة مركزية حول دوافعه، ثم عن حظوظ نجاحه في منطقة يُعتبر العمل فيها صعباً ومعقداً ومحفوفاً بالمخاطر.
ونبدأ بالدوافع والأهداف، ونذكر أنه في العلاقات الدولية ليس هناك ما يسمّى جمعيات خيرية وتقديمات مجانية فلكلّ شيء ثمن ولكلّ عطاء مقابل. وبالتالي عندما نسأل عن دوافع وأهداف فرنسا من التحرك يعني السؤال ضمناً عن المصالح الفرنسية خاصة والغربية عامة التي تريد فرنسا تحقيقها عبر تحركها الناشط هذا.
وفي البحث عن تلك المصالح والأهداف نجد أنها من طبيعة استراتيجية سياسية واقتصادية وامنية، تفرض نفسها على فرنسا في مرحلة حرجة يمرّ بها الشرق الأوسط والعالم. حيث اننا في مخاض ولادة نظام عالمي جديد يلد من رحم الشرق الأوسط، الذي يتعرّض الآن لأكبر مراجعة لحدود النفوذ والسيطرة فيه. وتعلم فرنسا انّ من يمسك بورقة او بموقع في هذه المنطقة يحجز لنفسه حيّزاً يناسبه في النظام العالم الجديد، الذي ستحدّد أحجام النفوذ فيه وترسم حدودها انطلاقاً من فعالية تلك الأوراق التي يملكها الطرف ومساحة النفوذ التي يشغلها وحجم التحالفات التي ينسجها في إطار تشكيل المجموعات الاستراتيجية التي يقوم عليها النظام العالم العتيد.
وفي هذا الإطار تعلم فرنسا انّ ما أخذته من معاهدة التقاسم في سايكس بيكو يلفظ أنفاسه اليوم، وانّ هناك توزيعاً جديداً بين أطراف منهم من جاء حديثاً ومنهم من يريد استعادة دور سقط قبل 100 عام ومنهم من يريد المحافظة على مواقعه التي استقرّ بها بعد الحرب العالمية الثانية. ولأجل ذلك ترى فرنسا انّ لبنان هو المنطقة الأسهل والموقع الأكثر أمناً لتحركها واحتمال النجاح فيه أفضل بعد ان تهدّدت مواقعها في معظم المنطقة. وتراهن فرنسا في ذلك على خصوصية بعض المناطق مشرقياً ولبنانياً ثقافياً وعقائدياً بما يعقد حركة أقرانها الغربيين ويسهّل حركتها بعد ان احتفظت بعلاقات مميّزة مع فئات محدّدة خلافاً للموقف الانكلوسكسوني منهم. (إيران وحزب الله).
كما تعتبر فرنسا انّ لها في لبنان صلات مباشرة او غير مباشرة، قديمة او مستحدثة مع جميع الطوائف والمكونات اللبنانية بشكل يمكّنها من حوار الجميع وليس أمراً عابراً أن تلبّي جميع القوى السياسية الأساسية ذات التمثيل الشعبي والنيابي الوازن في لبنان، أن تلبّي دعوة الرئيس الفرنسي إلى طاولة برئاسته ويضع معهم او يطرح او يملي عليهم خطة عمل لإنقاذ لبنان ويحصل على موافقتهم للعمل والتنفيذ ضمن مهلة زمنية محدّدة.
ومن جهة أخرى نرى انّ فرنسا تريد ان تقطع الطريق في لبنان أمام المشروع التركي لاجتياح المنطقة بدءاً من العراق وسورية ولبنان وصولاً الى لبيبا التي كانت فرنسا أساساً في إسقاط حكمها بقيادة القذافي ثم وجدت نفسها اليوم خارج المعادلات التي تتحكم بالميدان الليبي حيث تتقدّم تركيا هناك على أيّ أحد آخر.
بالإضافة إلى ذلك ترى فرنسا أنّ انهيار لبنان كلياً سيضع الغرب أمام مأزقين خطيرين الأول متصل بطبيعة من يملأ الفراغ ويقبض على البلاد بعد الانهيار، وفي هذا لا يناقش أحد بأنّ المقاومة ومحورها هم البديل، والثاني متصل بالنازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين الذين لن يكون لهم مصلحة في البقاء في بلد منهار لا يؤمّن لهم متطلبات العيش وستكون هجرتهم غرباً شبه أكيدة بما يهدّد الأمن والاقتصاد الأوروبيين.
أما على الاتجاه الاقتصادي المباشر، فانّ فرنسا تعلم عبر شركاتها التي تداولت بملف النفط والغاز المرتقب اكتشافه في لبنان، انّ ثروة لبنان تقدّر بمئات المليارات من الدولارات وانّ حضورها في لبنان يضمن لها حصة من هذه الثروة التي تعتبر اليوم عنواناً من أهمّ عناوين الصراع في شرقي المتوسط.
أضف الى كلّ ما تقدّم الخطر الاستراتيجي الكبير الذي يخشى الغرب من تحوّل أو إمكانية تحوّل لبنان الى الشرق والصين تحديداً ما يحرم الغرب وأوروبا وفرنسا باباً استراتيجياً واقتصادياً عاماً للعبور الى غربي آسيا.
نكتفي بهذا دون الخوض بأسباب تاريخية وثقافية وفكرية إلخ… تربط فرنسا بلبنان وتدفعها الى “شنّ هذا الهجوم” لإنقاذه من الانهيار، وانتشاله من القعر الذي قاده السياسيون اليه. فهل ستتمكن فرنسا من النجاح؟
في البدء يجب لأن نذكر بأنّ أكثر من لاعب إقليمي ودولي يتحرك او يحضر للتحرك او يطمح بالعمل على المسرح اللبناني ذي الخصوصية الاستراتيجية التي ينفرد بها، وبالتالي ان الفشل والنجاح لأيّ فريق يكون وفقاً لإمكاناته ثم لقدراته على الاستفادة من إمكانات البعض دعماً لحركته، وتخطيه لخطط البعض الآخر التي تعرقل تلك لحركة.
ففرنسا تعلم انها ليست بمفردها هنا وانّ المكونات السياسية في لبنان ترتبط طوعاً او ضغطاً بمرجعيات خارجية لا تتخطاها. ولذلك نرى انّ حظوظ فرنسا بالنجاح مقترنة بما يلي:
1 ـ العامل الأميركي. حتى الآن تعتبر أميركا صاحبة اليد الأقوى في القدرة على التخريب والتعطيل في لبنان، وصحيح انّ أميركا فقدت سلطة القرار الحاسم في لبنان بسبب وجود المقاومة فيه، إلا أنها احتفظت الى حدّ بعيد بالفيتو وبالقدرة على التخريب والتعطيل إما مباشرة بفعل تمارسه أو عبر وكلائها المحليين. وعلى فرنسا ان تتقي خطر التخريب الأميركي ولا تركن الى ما تعلنه أميركا من تطابق الأهداف الفرنسية والأميركية في لبنان، والى قرار أميركا بإنجاح المسعى الفرنسي، فالموقف الأميركي المعلن متصل بالمرحلة القائمة في أميركا والإقليم وحتى الانتخابات الرئاسية فقد تكون أميركا استعانت بفرنسا للتحرك لملء فراغ عارض من أجل تأخير انهيار لبنان ومنع وقوعه في اليد التي تخشى أميركا رؤيته فيها. وقد تكون الحركة الفرنسية بالمنظور الأميركي نوعاً آخر أو صيغة عملية من القرار 1559 الذي صنعاه معاً، ونفذاه معاً ثم استحوذت أميركا على المتابعة فيه. نقول هذا رغم علمنا بتبدّل الظروف بين اليوم والعام 2004، ما يجعلنا نتمسّك بفكرة التمايز بين الموقفين الفرنسي والأميركي وهذا التمايز يضع المسعى الفرنسي في دائرة خطر النسف او التخريب الأميركي الذي احتاطت له أميركا فربطت النزاع فيه من خلال موقف وكلائها من المبادرة الفرنسية بدءاً برفض تسمية مصطفى أديب رئيساً للحكومة.
2 ـ عامل المقاومة ومحورها. يجب على فرنسا ان تعلم وتتصرف بموجب هذا العلم انّ المقاومة في لبنان هي الفريق الأقوى بذاتها والطرف الأوسع تمثيلاً في لبنان والجهة الأبعد عمقاً إقليمياً فيه استراتيجيا، وبالتالي لا يمكن لأيّ مسعى في لبنان ان يُكتب له نجاح انْ كان في مواجهة المقاومة او على حسابها. ونحن نرى حتى الآن انّ فرنسا تدرك جيداً هذا الأمر وقد برعت في التعامل معه بواقعية ومنطق، لكن لا تكفي رسائل الطمأنينة بل يجب ان يكون الأمر ملازماً لأيّ تدبير او تصرف لاحق، ونحن نسجل بإيجابية السلوك الفرنسي في هذا المضمار حتى الآن.
3 ـ العامل الإقليمي. وهنا ينبغي الحذر والاحتياط في مواجهة أحداث وسلوكيات إقليمية طارئة او عارضة. فعلى فرنسا ان تعلم انّ جزءاً من مبادرتها يتناقض مع السعي التركي والأداء السعودي في لبنان، فضلاً عن الإمارات “المزهوة اليوم بصلحها مع “إسرائيل” وتطمح بفضاء استراتيجي لها في لبنان. لذلك يجب النظر لدور هذه الأطراف التي لها أو باتت لها أياد تخريبية واضحة كما انّ للسعودية قدرة على الضغط لمنع فرنسا من النجاح. ويكفي التوقف عند التناقض الرئيسي مرحلياً بين فرنسا والمعسكر الذي تقوده أميركا ومعها السعودية والإمارات حول حزب الله وسلاحه والعلاقة به لمنع فرنسا من النجاح لأن نجاحها مع تأجيل ملفّ السلاح خلافاً للرغبة السعودية الإماراتية الأميركية لا يروق لهم. ومن جهة أخرى يمكن الاستفادة إيجاباً من الموقف المصري الذي قد يعطي زخماً للتحرك الفرنسي.
4 ـ عامل الوقت. ليس أمام فرنسا سنين للتنفيذ بل هي فترة لا تتعدّى الأشهر الثلاثة، فإنْ نجحت كان لها ما أرادت وإنْ فشلت فإنّ متغيّرات ستحصل أميركياً وإقليمياً تجعل من متابعة المبادرة أمراً صعباً وتجعل النجاح مستحيلاً، وعليه إما ان نطوي العام على نجاح في الإنقاذ بيد فرنسية اوان ننسى كل شيء متصل بها.
العميد د. أمين محمد حطيط ـ البناء
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً