الثبات - التصوف
أعلام التصوف
الشيخ محمد بن محمود الحجار
ولادته ونشأته:
هو العالم العامل، العابد الزاهد، الولي الصالح، ولد رحمه الله تعالى في مدينة حلب الشهباء في حي ساحة بزة سنة 1920م، ودرس في المدرسة الخسروية، ثم انتقل في عام 1948م، لمتابعة دراسته في المدرسة الشعبانية في معهد العلوم الشرعية، وأتمَّ دراسته فيه، وكان معه في مراحل دراسته: الشيخ عبد القادر عيسى، وأحمد شعبان، محمد طاووس، وقد جمع هؤلاء في دراستهم بين الدارسة الشرعية القديمة والجديدة.
صورة للمدرستين الخسروية والشعبانية
شيوخه وأساتذته:
ومن أبرز شيوخه الذين لازمهم وانتفع بهم: الشيخ أبو النصر خلف الحمصي، وأخذ منه الطريقة النقشبندية، والشيخ عيسى البيانوني، والشيخ إبراهيم السلقيني (الجد)، والشيخ محمد نجيب سراج الدين، والشيخ أحمد الشماع، والشيخ محمد سعيد الإدلبي، والشيخ إبراهيم الغلاييني مفتي قطنا، ولازمه ملازمة تامة في قطنا أكثر من أربعين يوماً. وقد تشرَّف بخدمة هؤلاء المشايخ الكبار، وكان يحلق رؤوسهم ويزين لهم لحاهم.
وممن أجازه ببعض مرويّاته شيخه العلامة عيسى البيانوني جد زوجته، ويروي عنه الحديث المسلسل بيوم عاشوراء، وقد ذكر هذا الحديث في كتابه" من قصص التنزيل"ص 257 عند كلامه عن فضل صوم يوم عاشوراء في قصة موسى عليه السلام:" أقول: هذا الحديث من الأحاديث المسلسلة سندها، وقد أخذته عن شيخي الشيخ عيسى البيانوني، وكان أستاذنا في الثانوية الشرعية، فقال لنا رحمه الله تعالى:" لكم عندي جائزة، ولكن بشرط أن تأتوا صائمين فجئنا، وسرد لنا سلسلة الحديث، وأجازنا به".
حياته ونشاطه الدعوي في حلب:
كان الشيخ رحمه الله في حلب يدعو إلى الله تعالى ليل نهار، وينهل الناس من حاله وقاله، فقد كان إماماً وخطيباً في مسجد من مساجد حلب اسمه (جامع الزكي)، في منطقة يقال لها (باب النصر)، وكان هذا المسجد زمن وجود الشيخ فيه، جامعة بكل ما للكلمة من معنى، ومركزاً للإصلاح، تدخل إليه فترى زواياه مليئة بالطلبة والمحبين والذاكرين، يأتيه الطلاب من كل الأنحاء ليتلقون عن الشيخ علمه وحاله.
كانت خطبه مليئة بالعلم والحكمة يكتظ الناس حوله لسماعها مع سعة المسجد وكبره كان يعطي في كل يوم دروساً في الفقه والنحو والتصوف وغيرها، فقد كان يحب رحمه الله طريقة الحلقات البسيطة، ويقول أنها خير سبيل للعلم والبيان , بوسع أي راغب أن يطلب من الشيخ درساً في أي نوع من علوم الشريعة أو الآلة ليلقى استجابة برحابة صدرٍ وبشاشة وجه، وممن قرأ عليه في جامع الزكي ولازمه فترة الشيخ الدكتور عبد الستار أبو غدة وقرأ عليه عديله الشيخ حامد غريب والشيخ الدكتور زهير ناصر قرأ عليه ألفية ابن مالك في النحو والعهود المحمدية ولقد ساعد الطلاب على التفرغ والتعلم وجودُ الشيخ الدائم في المسجد، فقد كان المسجدُ بيتَه لا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان، يأتي من قبل الفجر بساعة على الأقل ويبقى إلى ما بعد العشاء، وقد يستريح أحياناً من بعد صلاة الإشراق إلى ما قبل صلاة الظهر بساعتين فقط، يأتيه ناسٌ من الهند وباكستان ومن كل الآفاق يأخذون إرشاداته وتوجيهاته ويتزودون بدعائه ونظراته قبل أن يرجعوا دعاةً إلى الله تعالى في بلادهم، وكان الشيخ يستقبلهم خير استقبال ويؤّمن لهم مبيتاً في غرف المسجد، ويقدم لهم الطعام بنفسه كان كثيراً ما يأخذ طلابه وتلاميذه معه بعد صلاة العشاء لتناول الفطور فهو يصوم من أول نشأته ولا يترك الصيام إلا في يومي العيد وأيام التشريق لحرمة صوم هذه الأيام ، قال لي رحمه الله: عندما كنت في عمرك لم أكن أفطر ليحثني على الصيام، وكان عمري قرابة 17 سنة.
بقي الشيخ في مسجد الزكي قرابة أربعين عاماً من العطاء والعلم والدعوة والإرشاد يقيم في كل يوم مجلساً للذكر والختم النقشبندي لا يفتر عن العلم والعبادة والذكر أبداً.
صورة لجامع زكي باشا في مدينة حلب
ملازمته للمسجد النبوي:
كان شديد الحرص على صلاة الجماعة في المسجد النبوي، والقراءة والعلم والتعليم، وكان بحق حمامة المسجد النبوي، وما من أحد من أصحاب الشيخ وعارفيه، زار المسجد النبوي إلا ورآه في مجلسه المعروف عند باب السلام بعد صلاة الفجر، أو عند باب الرحمة بعد صلاة الظهر، أو عند أول التوسعة السعودية بعد باب الرحمة من بعد صلاة العصر إلى صلاة العشاء. لم ينقطع رحمه الله عن المسجد النبوي في يوم من الأيام، حتى في شدَّة الزحام، في شهر رمضان، وأشهر الحج، فكان يحضر إلى المسجد عند الأذان الأول، ويبقى إلى صلاة الضحى، ثم يعود بعد استراحة قصيرة في منزله إلى المسجد قبل صلاة الظهر، ويأتي إلى الروضة المطهَّرة كل يوم، ويستمر في صلاته وعبادته فيها إلى ما بعد صلاة الظهر، ثم يمكث في المسجد إلى ما بعد صلاة العشاء. وكان يخرج ماشياً إلى مسجد قباء كل يوم سبتٍ، ولم ينقطع عن هذه السنَّة إلا بعد كسر حوضه قبيل ثلاث سنوات من وفاته. ومن حرصه على صلاة الجماعة في المسجد النبوي أنه كان إذا أراد السفر إلى مكة المكرمة للعمرة لا يخرج من المدينة إلا بعد صلاة العشاء، كي لا يضيع صلاة الجماعة في المسجد النبوي، ويصل إلى مكة عند الأذان الأول للفجر، ويصلي الفجر في المسجد الحرام، ويكثر من الطواف بعد العمرة، ولا يقل طوافه عن عشرة أسابيع.
صورة للشيخ رحمه الله في المسجد النبوي
تواضعه:
يقول عن كتبه: (كتبي فضول أعمال وليست فضائل أعمال وأنا أستغفر الله من تأليفها) مع أنها من الكتب النادرة الهامة المفيدة.
جاءه أحد الناس ومدحه، ثم لما انصرف قال لأخ لي يأتي إليك أحدهم ويقول لك معك مليون ريال، وأنت تعرف أنك لا تملك في جيبك سوى ريالين فكيف تغتر بكلامه وتصدقه.
وفاءه وحبه لطالب العلم: كان وفياً بشكل كبير لطلابه، وكأن هذا الخلق وراثة من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لا يقدم له أحدٌ معروفاً إلا وكافأه أضعاف مضاعفة، يسأل دائماً عن أحوال إخوانه وتلامذته ومريديه ويهتم لهمومهم ويفرح لفرحهم.
ومن وفائه رحمه الله ذكره لزوجته دائماً بالخير والثناء، وكانت قد توفيت قبله بثمانية سنوات تقريباً، ويقول أنه يدعو لها في أغلب سجداته، و هي حفيدة الشيخ عيسى البيانوني رحمه الله من الصالحات العابدات رحمها الله.
من كتب ومؤلفات الشيخ
وفاته رحمه الله:
في مساء الأربعاء ليلة الخميس الموافق 6/محرم/1428هـ صلى الشيخ على عادته العشاء في الحرم، ثم بعد الصلاة كالعادة قرأ أوراده وذهب إلى منزله وأكل طعام الفطور، ثم اطلّع الشيخ على كتابه الأخير تحقيقاً وهو فتاوى الإمام النووي وسُرَّ به، ثم نام وكانت هذه الليلة هي ليلة وفاته رحمه الله، فقد أتى بعض أقاربه ليقدم السحور للشيخ كالعادة فاستغرب أن الغرفة لم تضأ بعد على غير العادة، ودخل ليجد الشيخ رحمه الله قد توفي وسواكه إلى جانبه رحمه الله رحمةً واسعة، صُلي عليه صلاة الظهر من يوم الخميس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفن في بقيع الغرقد إلى جانب أصحاب رسول الله وآل بيته صلى الله عليه وعليهم أجمعين.