الثبات - التاريخ الإسلامي
جمع "القرآن الكريم" و كتابته
وردت لفظة «الجمع» بمعنى: «الحفظ مع دقة الترتيب» عدّة مرّات في كتاب الله، وذلك من مثل قوله تعالى مخاطباً خاتمَ أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقرآنهُ فَإِذَا قرآناهُ فَاتَّبِعْ قرآنهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: 16 ـ 19].
وهذا المعنى اتاه الله تعالى ـ لخاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم ـ ولعددٍ غيرِ قليل من صحابته الكرام، ومن تبعهم من الصالحين إلى اليوم، وحتى يوم الدين، وهؤلاء تدارسوا القرآن الكريم، ولا يزالون يتدارسونه ويستظهرونه، ليتمكنوا من القراءة به في الصلوات المكتوبة، وفي النوافل، وفي الاستشهاد.
كما وردت لفظة «الجمع» بمعنى: «الكتابة والتدوين».
وقد مرّ جمع القرآن وتدوينه بمراحل ثلاثة:
أولاً ـ جمع القرآن الكريم كتابة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إنّ جميع الأحاديث الواردة في هذا الشأن تتفق على أنّ ترتيب آيات القرآن، حسبما عليه المصحف الان، إنّما هو ترتيبٌ توقيفي، لم يجتهد فيه رسول الله ولا أحد من الصحابة في عهده أو من بعده، وإنّما كان يتلقّى ترتيبَ بعضها إلى جانب بعض وحياً من عند الله بواسطة جبريل.
روى الإمام أحمد بإسناده عن عثمان بن أبي العاص، قال: كنتُ جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخصَ ببصره ثم صوّبه، قال: «أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الاية هذا الموضع من هذه السورة»: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النحل: 90].
إنّ من مظاهر عناية الله بالقرآن الكريم وحفظه ما تمّ على يد الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته من حفظ القرآن في صدورهم، وكتابته في الصحف، وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته في ذلك أرقى مناهج التوثيق، ذلك أنَّ القرآن الكريم نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجّماً في ثلاث وعشرين سنة، حسب الحوادث ومقتضى الحال، وكانت السورةُ تدوَّن ساعةَ نزولها، إذ كان المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا ما نزلت عليه ايةٌ أو آيات قال: ضعوها في مكان كذا... سورة كذا.
ولهذا اتفق العلماء على أنّ جمع القرآن توقيفي، بمعنى أن ترتيبَ آياته بهذه الطريقة التي نراه عليها اليوم في المصاحف إنما هو بأمر الله، ووحي من الله.
وما يقال عن ترتيب آيات القرآن هو الذي يقوله إجماع المؤرخين والمحدّثين والباحثين عن ترتيب السور، ووضع البسملة في رؤوسها، قال القاضي أبو بكر الباقلاني رواية عن مكي رحمه الله في تفسير سورة «براءة»: إنَّ ترتيب الآيات في السور، ووضع البسملة في الأوائل هو توقيفٌ من الله عز وجل، ولمّا لم يؤمر بذلك في أول سورة براءة تُرِكَت بلا بسملة.
وروى القرطبي عن ابن وهب قال: سمعتُ سُلَيمان بن بلال يقول: سمعتُ ربيعة يُسأل: لم قدّمت البقرةُ والُ عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة، وإنما نزلتا في المدينة؟ فقال ربيعة: قد قدمتا، وألّف القرآن على علمٍ ممّن ألّفه.
هذا عن ترتيبِ اي القرآن وسوره، أما عن كتابته، فمن المعلوم أولاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، أجمعَ على ذلك عامة المؤرخين، وكل المشركين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذا فقد كان يعهد بكتابة ما يتنزل عليه من القرآن إلى أشخاصٍ من الصحابة بأعيانهم كانوا يُسمَّون كتّاب الوحي، وأشهرهم الخلفاء الأربعة، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة، والزبير بن العوام، وشُرَحْبيل بن حسْنة، وعبد الله بن رواحة، وقد كانوا يكتبون ما يتنزل من القرآن تباعاً حسب الترتيب الذي يأتي به جبريل؛ فيما تيسر لهم من العظام المرققة والمخصصة لذلك، وألواح الحجارة الرقيقة والجلود، وقد كانوا يضعون ما يكتبونه في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يكتبون لأنفسهم إنْ شاؤوا نسخاً عنها يحفظونها لديهم، ولقد كان من الصحابة من يتتبع ما ينزل من آيات القرآن ويتتبع ترتيبها فيحفظها عن ظهر قلب، حتى كان فيهم من حفظ القرآن كله، فمن المشاهير أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، واخرون.
وظلَّ الصحابة يعكفون على حفظ القرآن غيباً، حتى ارتفعت نسبةُ الحفّاظ منهم إلى عدد لا يحصى.
يتضح لك من هذا الذي ذكرناه أنّ القرآن وعاه الصدر الأول من الصحابة، وبلّغوه إلى مَنْ بعدَهم بطريقتين اثنتين:
إحدهما: الكتابة التي كانت تتم للقرآن بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم لأشخاص بأعيانهم وكّل إليهم هذا الأمر، ولم ينتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه إلا والقرآن مكتوب كله في بيته.
الثانية: حفظه في الصدور عن طريق التلقي الشفهي من كبار قرّاء الصحابة وحفاظهم؛ الذين تلقَوْه بدورهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذي أقرّهم على كيفية النطق والأداء.
وكان كلّ ما يكتب من آيات وسورِ القرآن الكريم بعدَ الوحي بها مباشرةً يُحْفَظُ في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع استنساخ كُتّاب الوحي نسخاً لأنفسهم من جميع ما أُملي على كلٍّ منهم، وبذلك تمَّ جمعُ القرآن الكريم كله كتابة وحفظاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وثبت أنَّ جبريل عليه السلام كان يعارِضُ الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن مرّةً واحدةً في كلِّ سنة، ثم عارضه به في السنّةِ التي توفّي فيها صلى الله عليه وسلم مرتين، ومعنى هذا أنَّ القرآن الكريم كان في صورته التامّة في هذه السنة التي تمّ عرضُه فيها مرّتين، ولذلك شواهد كثيرة ذكرها العلماء، من أظهرها ما أورده البغويُّ عن أبي عبد الرحمن السُّلمي أنّه قال: كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان، وزيد بن ثابت، والمهاجرين والأنصار واحدةً، كانوا يقرؤون القراءة العامة فيه، وهي القراءةُ التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل مرّتين في العام الذي قُبض فيه، وكان زيد قد شهد العرضة الأخيرة، وكان يقرأئُ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده الصدّيق في جمعه أولاً، وولاه عثمانُ على كَتَبة المصحف.
على أنّ القرآن رغم ذلك لم يجمع بين دفتين في مصحف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لضيقِ الوقتِ بين اخرِ ايـةٍ نزلت من القرآن وبين وفاتـه صلى الله عليه وسلم.
ثانياً ـ جمع القرآن الكريم في مصحف واحد على عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
كان من ضمن شهداء المسلمين في حرب مسيلمة الكذَّاب في اليمامة كثيرٌ من حفظة القرآن، وقد نتجَ عن ذلك أنْ قام أبو بكر رضي الله عنه بمشورة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجمع القرآن، حيث جُمِعَ من الرقاع والعظام والسَّعْف ومن صدور الرجال، وأسندَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذا العمل العظيم، والمشروعَ الحضاريَّ الضخم إلى الصحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه.
يروي زيد بن ثابت رضي الله عنه فيقول: بعث إليَّ أبو بكر رضي الله عنه فقال: إنّ عمر أتاني فقال: إنَّ القتلَ قد استحرّ يومَ اليمامة بقرّاء القرآن، وإنِّي أرى أنْ تأمرَ بجمع القرآن، قلتُ لعمر: كيفَ أفعلُ شيئاً لم يفعله رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هذا واللهِ خيرٌ، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرحَ الله صدري للذي شرحَ له صدرَ عمر، ورأيتُ في ذلك الذي رأى عمر، قال زيدٌ: قال أبو بكر: وإنّك رجلٌ شابٌّ عاقل لا نتهمك، وقد كنتَ تكتبُ الوحيَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبّع القرآن فاجمَعْهُ، قال زيد: فوالله لو كلّفوني نقل جبلٍ من الجبال ما كان بأثقلَ عَليّ مما كلفني به من جمع القرآن، فتتبعتُ القرآن من العسب واللِّخاف، وصدورِ الرجال، والرِّقاع، والأكتاف. قال: حتى وجدتُ اخرَ سورةِ التوبةِ مع أبي خزيمة الأنصاريِّ، لم أجدها مع أحدٍ غيره، وهي قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، حتى خاتمة براءة، وكانت الصحف عند أبي بكر في حياته حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم.
وعلق البغوي على هذا الحديث فقال: فيه البيانُ الواضحُ أنّ الصحابة رضي الله عنهم جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من غير أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه شيئاً، والذي حملهم على جمعه ما جاء في الحديث؛ وهو أنّه كان مفرّقاً في العسب واللخاف وصدور الرجال، فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته، ففزعوا فيه إلى خليفةِ رسول الله، ودعَوْه إلى جمعه، فرأى في ذلك رأيهم، فأمر بجمعه في موضعٍ واحدٍ باتفاقٍ من جميعهم، فكتبوه كما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يقدموا شيئاً أو يؤخروا أو يضعوا له ترتيباً لم يأخذوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى أصحابه، ويعلّمهم ما ينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الان في مصاحفنا بتوقيفٍ جبريل صلوات الله عليه إياه على ذلك، وإعلامه عند نزولِ كلِّ ايةٍ أنّ هذه الاية تكتب عَقِبَ ايةِ كذا في السورة التي يذكر فيها كذا.
وهكذا يتضح للقارئ الكريم أنّ من أوليات أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنّه أوّل من جمع القرآن الكريم، يقول صعصعة بن صَوْحان رحمه الله: أول من جمع القرآن بين اللوحين، وورّث الكلالة، أبو بكر.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يرحم الله أبا بكر، هو أول من جمع القرآن بين اللوحين.
وقد اختار أبو بكر رضي الله عنه زيدَ بن ثابتٍ لهذه المهمة العظيمة، وذلك لأنّه رأى فيه المقوّمات الأساسية للقيام بها، وهي:
1ـ كونه شاباً، حيث كان عمره واحداً وعشرين عاماً، فيكون أنشطَ لما يُطْلبُ منه.
2ـ كونه أكثر تأهيلاً، فيكون أوعى له، إذ مَنْ وهبه الله عقلاً راجحاً فقد يسّر له سُبُلَ الخير.
3ـ كونه ثقة، فليس هو موضعاً للتهمة، فيكون عملُه مقبولاً، وتركنُ إليه النفوس، وتَطمئن إليه القلوب.
4ـ كونه كاتباً للوحي، فهو بذلك ذو خبرةٍ سابقةٍ في هذا الأمر، وممارسةٍ عمليةٍ له فليس غريباً عن هذا العمل، ولا دخيلاً عليه.
هذه الصفاتُ الجليلةُ جعلتِ الصدّيق يُرشِّحُ زيداً لجمع القرآن، فكان به جديراً، وبالقيام به خبيراً.
5ـ ويضافُ لذلك أنّه أحد الصحابة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع الإتقان.
وأما الطريقة التي اتبعها زيد في جمع القرآن؛ فكان لا يثبِتُ شيئاً من القرآن إلا إذا كان مكتوباً بين يدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومحفوظاً من الصحابة، فكان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، خشيةَ أنْ يكونَ في الحفظِ خطأ أو وهمٌ، وأيضاً لم يقبل من أحدٍ شيئاً جاء به إلا إذا أتى معه شاهدان يشهدان أن ذلك المكتوبَ كُتِبَ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّه من الوجوه التي نزل بها القرآن.
وعلى هذا المنهج استمرّ زيدٌ رضي الله عنه في جمع القرآن حَذِراً، متثبّتاً، مبالغاً في الدقة والتحري.
إنّ زيداً اتبع طريقة في الجمع نستطيعُ أن نقولَ عنها من غير ترددٍ: إنّها طريقةٌ فذّة في تاريخ الصناعة العقلية الإنسانية، وإنها طريقة التحقيق العلمي المألوف في العصر الحديث، وإنّ الصحابيَّ الجليل قد اتبع هذه الطريقة بدقة دونها كل دقة، وإنّ هذه الدقة في جَمْعِ القرآن متصلةٌ بإيمان زيد بالله، فالقرآن كلامُ الله جل شأنه، فكل تهاونٍ في أمره، أو إغفالٍ للدقة في جمعه وزر؛ ما كان أحرص زيداً ـ في حسن إسلامه، وجميل صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتنزه عنه.
إنّ ما قام به زيد بن ثابت رضي الله عنه بتكليفٍ من خليفة المسلمين أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومشورةِ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومعاونةِ أبي بن كعب رضي الله عنه، ومشاركة جمهور الصحابة ممّن كان يحفظ القرآن أو يكتبه، وإقرارُ جَمْعٍ من المهاجرين والأنصار مظهرٌ من مظاهر العناية الربانية بحفظ القرآن الكريم، وتوفيقٌ من الله للأمة الإسلامية، وتسديدٌ منه لمسيرتها، ويتضمن ذلك ـ أيضاً ـ كما قال أبو زهرة: حقيقتين مهمتين تدلان على إجماع الأمة كلِّها على حماية القرآن الكريم من التحريف والتغيير والتبديل، وأنّه مصونٌ بعناية الله سبحانه وتعالى، ومحفوظٌ بحفظه وإلهام المؤمنين بالقيام عليه، وحياطته.
الأولى: أن عمل زيد رضي الله عنه لم يكن كتابة مبتدأة، ولكنه جمع مكتوب، فقد كُتِبَ القرآن كلُّه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل زيدٍ الابتدائي هو البحثُ عن الرقاع والعظام التي كان قد كُتِبَ عليها، والتأكد من سلامتها بأمرين، بشهادةِ اثنين على الرقعة التي فيها الايةُ والايتان أو الآيات، وبحفظ زيدٍ نفسه، وبالحافظين من الصحابة، وقد كانوا الجمعَ الغفيرَ، والعددَ الكبيرِ، فما كان لأحدٍ أن يقول: إنَّ زيداً كتب من غير أصلٍ مادي قائمٍ، بل إنّه أخذَ من أصلٍ قائمٍ ثابتٍ مادي، وبذلك نقرِّرُ أن ما كتبه زيد هو تماماً ما كُتِبَ في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنّه ليس كتابة زيد، بل ما كتب في عصره عليه الصلاة والسلام، وأملاه، وما حفظه الروح القدس.
الثانية: أن عمل زيد لم يكن عملاً أحادياً، بل كان عملاً جماعياً من مشيخة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد طلب أبو بكر إلى كل ما عنده شيءٌ مكتوب أن يجيء به إلى زيد، وإلى كلِّ مَنْ يحفظ القرآن أن يدلي إليه بما يحفظه، واجتمع لزيدٍ من الرقاع والعظامِ وجريدِ النخل ورقيق الحجارة، وكل ما كَتَبَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند ذلك بدأ زيد يرتبه ويوازنه ويستشهد عليه، ولا يثبِتُ ايةً إلا إذا اطمأن إلى إثباتها، كما أوحيت إلى رسول الله.
واستمرّ الأمر كذلك، حتى إذا ما أتمَّ زيدٌ ما كتبَ، تذاكره الناس، وتعرفوه، وأقروه، فكان المكتوب متواتراً بالكتاب، ومتواتراً بالحفظ في الصدور، وما تمّ هذا الكتاب في الوجود غير القرآن ـ وايم الله ـ عناية من الرحمن خاصة بهذا القرآن العظيم. وشرف للأمة الإسلامية تميزت به على سائر الأمم، ووفقها الله لخدمة كتابه في منهج علمي سبقت إليه جميعَ الأمم.
ثالثاً ـ جمع القرآن الكريم في عدد من المصاحف على عهد ذي النورين أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه:
1ـ الباعث على جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنّ حذيفة بن اليمان قَدِمَ على عثمان رضي الله عنه، وكان يُغازي أهل الشام في فتح أرمينية، وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزعَ حذيفةَ رضي الله عنه اختلافُهم في القراءة، فقال حذيفةُ لعثمان: يا أميرَ المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتابِ اختلافَ اليهود والنصارى.
فأرسلَ عثمانُ إلى حفصة أنْ أرسلي إلينا بالصُّحفِ ننسخُها في المصاحف، ثم نردُّها إليك، فأرسلت بها حفصةُ إلى عثمان، فأمرَ زيدَ بنَ ثابت، وعبدَ الله بن الزبير، وسعيدَ بن العاص، وعبدَ الرحمن بن الحارث بن هشام رضي الله عنهم، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرّهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيءٍ من القرآن؛ فاكتبوه بلسان قريش، فإنّما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصُّحف في المصاحف، ردَّ عثمان رضي الله عنه الصُّحفَ إلى حفصة، فأرسل إلى كلِّ أُفقٍ بمصحف ممّا نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كلِّ صحيفةٍ، أو مصحفٍ أن يُحرّقَ.
ويؤخذ من الحديث الصحيح أمور، منها:
أ ـ أنّ السببَ الحامل لعثمان رضي الله عنه على جمع القرآن مع أنّه كان مجموعاً، مرتّباً في صحف أبي بكر الصديق، إنّما هو اختلافُ قرّاء المسلمين في القراءةِ اختلافاً أوشك أن يؤدّي بهم إلى أخطرِ فتنةٍ في كتاب الله تعالى، وهو أصل الشريعة، ودعامة الدين، وأساس بناء الأمة الاجتماعي والسياسي والخُلُقي، حتى إنّ بعضهم كان يقول لبعض: إنّ قراءتي خيرٌ من قراءتك، فأفزعَ ذلك حذيفةَ، ففزع إلى خليفةِ المسلمين وإمامِهم، وطلب إليه أن يُدْرِكَ الأمة قبل أن تختلف، فيستشري بينهم الاختلافُ، ويتفاقم أمرُه، ويعظم خطبُه، فيُمسّ نصُّ القرآن، وتُحرّف عن مواضعها كلماته وآياته، كالذي وقع بين اليهود والنصارى من اختلاف كل أمة على نفسها في كتابها.
ب ـ أن هذا الحديث الصحيح قاطعٌ بأنّ القرآن الكريم كان مجموعاً في صحف ومضموماً في خيط، وقد اتفقت كلمةُ الأمةِ اتفاقاً تاماً على أنَّ ما في تلك الصُّحف هو القرآن كما تلقته عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في اخر عرضةٍ على أمين الوحي جبريل عليه السلام، وأنَّ تلك الصحف ظلت في رعاية الخليفة الأول أبي بكر الصديق، ثم انتقلت بعده إلى رعاية الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، ثم عرف عمر حضور أجله، ولم يولِّ عهده أحداً معيناً في خلافة المسلمين، وإنّما جعل الأمر شورى في الرّهط المتصفين بالرّضا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوصى بحفظ الصحف عند ابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، وأنَّ عثمان اعتمدَ في جمعه على تلك الصُّحف، وعنها نقل مصحفه «الرّسمي»، وأنّه أمر أربعةً من أشهر قرّاء الصحابة إتقاناً لحفظ القرآن، ووعياً لحروفه، وأداءً لقراءاته، وفهماً لإعرابه ولغته: ثلاثة قرشيين وواحداً أنصارياً، وهو زيد بن ثابت صاحب الجمع الأول في عهد الصديق بإشارة الفاروق.
وفي بعض الروايات: أنّ الذين أمرهم عثمان أن يكتبوا من الصحف اثنا عشر رجلاً، فيهم أُبي بن كعب، واخرون من قريش والأنصار.
ج ـ ونأخذ من هذا: أن الفتوحات في عهد عثمان كانت بإذن وأمر من الخليفة، وأنّ القرار العسكري يصدرُ من المدينة، وأنّ الولايات الإسلامية كلها كانت خاضعة لأمر الخليفة عثمان في عهده، بل يدلّ على أنّ هناك إجماعاً من الصحابة والتابعين في جميع الأقاليم على خلافة عثمان، وقدوم حذيفة بن اليمان إلى المدينة، لرفع اختلاف الناس في قراءة القرآن، يدل على أنّ القضايا الشرعية الكبرى كان يستشار فيها الخليفة في المدينة، وأنَّ المدينة ما زالت دار السنة، ومجمع فقهـاء الصحابة.
2 ـ استشارة جمهور الصحابة في جمع عثمان:
جمع عثمان رضي الله عنه المهاجرين والأنصار، وشاورهم في الأمر، وفيهم أعيانُ الأمة، وأعلامُ الأئمة، وعلماءُ الصحابة، وفي طليعتهم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وعرض عثمان رضي الله عنه هذه المعضلة على صفوة الأمة وقادتها الهادين المهديين، ودارسهم أمرَها، ودارسوه، وناقشهم فيها وناقشوه، حتى عرف رأيهم وعرفوا رأيه، فأجابوه إلى رأيه في صراحة لا تجعل للريب إلى قلوب المؤمنين سبيلاً، وظهر للناس في أرجاء الأرض من عقد عليه إجماعهم، فلم يعرف قط يومئذ لهم مخالف، ولا عرف عند أحد نكير، وليس شأن القرآن الذي يخفى على احادِ الأمة فضلاً عن علمائها وأئمتها البارزين.
إنَّ عثمان رضي الله عنه لم يبتدع في جمعه المصحف، بل سبقه إلى ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كما أنه لم يضع ذلك من قبل نفسه، إنما فعله عن مشورة للصحابة رضي الله عنهم، وأعجبهم هذا الفعل، وقالوا: نعمَ ما رأيتَ، وقالوا أيضاً: قد أحسن، أي: في فعله في المصاحف.
وقد أدرك مصعب بن سعد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم حين مشق عثمان رضي الله عنه المصاحف، فراهم قد أُعجبوا بهذا الفعل منه.
وكان علي رضي الله عنه ينهى مَنْ يعيبُ على عثمان رضي الله عنه بذلك، ويقول: يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا فيه إلا خيراً ـ أو قولوا خيراً ـ فوالله ما فعل الذي فعل ـ أي: في المصاحف ـ إلا عن ملأ منا جميعاً ـ أي:
الصحابة ـ واللهِ لو ولّيتُ، لفعلتُ مثل الذي فعل.
وبعد اتفاق هذا الجمع الفاضل من خيرة الخلق على هذا الأمر المبارك، يتبين لكل متجرِّدٍ عن الهوى أنّ الواجبَ على المسلم الرضا بهذا الصنيع الذي صنعه عثمان رضي الله عنه، وحفظ به القرآن الكريم.
قال القرطبي في التفسير: وكان هذا من عثمان رضي الله عنه بعد أن جمع المهاجرين والأنصار، وجلة أهل الإسلام، وشاورهم في ذلك، فاتفقوا على جمعه بما صح، وثبت من القراءة المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم واطّراح ما سواه، واستصوبوا رأيه، وكان رأياً سديداً موفقاً.