أقلام الثبات
في ظل ما تشهده منطقة الشرق الأوسط من صراع علني في العقود الأخيرة على موارد الطاقة كالغاز والنفط ، كان هناك صراع أخر خفي يدور على المصدر الرئيسي للحياة الا وهو "المياه"، وتجلى الأمر منذ تسعينيات القرن الماضي بين العراق وتركيا بسبب السدود التركية على نهري دجلة والفرات، والتصعيد الأخير بين مصر وإثيوبيا بسبب سد النهضة، وكل ما سبق طال الشرح فيه والحديث عنه، واليوم وفي ظل أطماع دولة الإحتلال في المياه الإقتصادية اللبنانية وبلوك9 تحديدا، بالتزامن مع تطوير أساليبها للحصول على المياه العذبة، كان علينا أن ننظر نظرة شاملة في كيفية تعامل دولة الإحتلال منذ نشأتها وحتى الأن مع المياه، وما تمثله المياه من رمز وسلاح في فلسفة الدولة العنصرية، بعد أن تحولت المياه في القرن الحادي والعشرين من مورد للحياة إلى سلاح استراتيجي، حتى بات شبح الحرب يطل على بلداننا ليس بسبب النفط أو الغاز ولكن بسبب المياه وندرتها.
ونتذكر جيدا في ظل تحركات دولة الإحتلال المتزايدة تجاه دول الجوار للحصول على المياه العذبة، كيف كانت تشكيلات قوات الإحتلال البرية في حرب يوليو/تموز 2006م تندفع بكل قوة كي تصل إلى نهر الليطاني بجنوب لبنان، وهو المشهد الذي ذكرنا بالحروب التي خاضتها العصابات الصهيونية بعد نزولهم أرض فلسطين مباشرة، ولم تكتف تل أبيب بنهر الليطاني، بل ذهبت تروي عطشها من باقي أنهار الشام كنهر الحاصباني وبانياس واليرموك وغيرها من روافد ومنابع الشام.
كما أنها لم تتردد في الذهاب إلى أفريقيا للإستثمار في مشاريع المياه رغم البعد الجغرافي والتاريخي، فكما يعلم الجميع أن "إسرائيل" كثيرا ما أستخدمت سلاح المياه لتهجير الفلسطنيين من الضفة الغربية وبالتحديد في منطقة الأغوار، فقد مثلت الأنهار خطوط التقدم لجيش الإحتلال "الإسرائيلي" في كثير من معاركه، فالمياه تمثل للكيان الصهيوني فلسفة وسلاحاً إستراتيجياً قبل أن تكون مورداً للحياة.
وخلال جلسة الحكومة الإسرائيلية الأحد4ديسمبر2016م صرح رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، قائلا : "أن مشروع قناة البحرين بمنزلة مرساة إستراتيجية للعلاقات بين "إسرائيل" والأردن التي تزداد حيوية أكثر فأكثر، وقد تجاوزنا الأسبوع الماضي مرحلة أخرى في طريق تجسيد مشروع قناة البحرين، فالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان يمولون هذا المشروع المشترك ل"إسرائيل" والأردن وللسلطة الفلسطينية، والذي ينطوي على تحلية مياه البحر الميت لصالح بلدات غور الأردن الإسرائيلية والأردنية على حد سواء، ووفقا لهذا المشروع سيتم في عام 2020 توفير مياه عذبة إلى سكان غور الأردن وسيتم تحويل مياه مالحة من البحر الأحمر إلى البحر الميت."
ولفت نتنياهو وقتها الإنتباه إلى أن هذا المشروع يتطابق مع رؤية مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل كما ورد في كتابه "أرض قديمة حديثة"، وهو الأمر الذى يجعلنا نسلط الضوء على كيفية تعامل "إسرائيل" مع المياه، وما اذا كانت تمثل لها مورد للحياة فقط أم شيئا أخر.
فالمياه تعتبر أحد أهم أركان الفلسفة اليهودية، وتمثل سلاحا أستراتيجيا قويا للدولة العبرية، ففي أدبيات اليهود ترسم حدود دولة بني "إسرائيل" المزعومة بين نهري الفرات في العراق والنيل في مصر، وهي الخريطة التي تتجسد في العبارة الشهيرة "من الفرات إلى النيل وطنك يا بني إسرائيل"، وعند تأملنا لعلم دولة الكيان الصهيونى سيتضح لنا حاليا ما تمثله المياه لتلك الدولة المزعومة فسنجد نجمة داوود السداسية تتوسط خطين باللون الأزرق وهما رمز حدود دولة "إسرائيل" الكبرى التي تقع بين نهري الفرات والنيل.
وأذا تتبعنا بداية ولادة كيان الإحتلال سنجد أن فلسطين لم تكن الهدف والمطلب الأساسى لهم، بل أتجهت أنظار اليهود الذين كانوا يبحثون عن مأوى ووطن لهم الى أوغندا حيث روافد ومنابع نهر النيل، الى أن جاء "وعد بلفور" وعد من لايملك لمن لا يستحق، لكي تمنح المملكة المتحدة مأوى لليهود بعد أن رسمت الصهيونية العالمية دولتها الوليدة عبر أسس ومعتقدات تاريخية مزعومة من التلمود والتوراة، ولا يخفى على أحد صدمة بسطاء اليهود أثناء وصولهم لأرض الميعاد (كما يزعمون) بسبب تلك الأرض الصحراوية الواقعة بين مصر والشام وتفتقر للمياه، فجاءت كلمة مؤسس الكيان الصهيونى بن جوريون معبرة عن حاضر تلك الدولة في ذلك الوقت ومستقبلها ومستقبل المنطقة بعد أن قال "إن المؤسسين الحقيقيين للأرض الجديدة القديمة هم مهندسو المياه، فعليهم يتوقف كل شيء".
وعندما تذمر اليهود في البداية من أرض فلسطين التي تفتقر للمياه، جاء رد قادة الحركة الصهيونية في لندن يوضح أن أهمية المكان الذي وقع عليه الأختيار لكي يشهد ولادة دولتهم جاء لتنفيذ الفصل بين الذراع واليد أي مصر وسوريا، فكانت الأنتصارات العربية تأتي دوما بالوحدة بين البلدين وقوة الأتصال بينهما، وترجم ذلك بداية من معركة حطين بعهد سلطان مصر صلاح الدين الايوبي 1187م وصولا لحرب أكتوبر المجيدة 1973م.
وبعد غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003م لم تتأخر تل أبيب في دعم أنقرة لإتمام مشاريع سدود الغاب الذي يشمل أكثر من 20 سدا والتي دعمته إسرائيل بقوة وأعلنت عزمها الأستثمار في تلك المنطقة حيث يوجد في مشروع الغاب 67 شركة إسرائيلية تعمل منذ عام 1995م، ولم تكتف تل أبيب بذلك بل قامت بشراء أراضٍ على ضفاف نهر مناوغات، وبات الدعم موجه أيضا لإقامة سدود بريجيك وسد قره قايا وسد غازي عنتاب وسد كيبانو وسد دجلة، وهذا نفس السلاح الذي أستخدمته أدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك اوباما و"إسرائيل" في خطة تركيع مصر في أجتماعهم في المانيا 2014م عندما طالبوا بسرعة بناء سد النهضة الإثيوبى، وهو السد الذي باتت فيه "إسرائيل" الداعم الأول له، كما جاء مشروع أنابيب السلام في تركيا ومشروع جنوب شرق الأناضول اللذين تم تنفيذهما على نهري دجلة والفرات كتوغل "إسرائيلي" جديد في مشاريع المياه في المنطقة، وإستغلال واضح لموارد تركيا المائية.
وفي كل هذا لا ننسى الملف المشتعل الأن بين مصر وأثيوبيا بسبب سد النهضة وهو من البداية منذ أن كان فكرة قبل أن يدخل مرحلة التنفيذ، فكرة صهيونية بحتة.