مقالات مختارة
تتعدّى أهداف مؤتمر برلين «الليبي» ازمة الصراع الحاد بين القوى الليبية ليشكل مدخلاً بسيطاً الى «لجم» البعد الداخلي لهذه الازمة، عبر محاولة للتنسيق بين القوى الدولية اللاعبة في ميادين طرابلس الغرب وبنغازي وغيرهما.
اما طموح هذا المؤتمر فيذهب نحو تحقيق ربط نزاع قاعدته المسرح الليبي ومداه، الشرق الأوسط بكامله من آباره البرية والبحرية على السواء حتى أسواقه المستهلكة لكل انواع السلع، وذلك بانتظار التسويات الإقليمية التي تحتاج الى قليل من الانتظار ترقباً لعودة الصراع الأميركي – الإيراني الى قواعد احترام الخطوط الحمر.
مَن هي القوى المشاركة في مؤتمر السيدة ميركل؟ هناك القوى الأوروبية الأساسية المانيا وفرنسا وايطاليا وانجلتره مع ممثلين آخرين عن الاتحاد الأوروبي.
أما روسيا فتجد في مؤتمر برلين وسيلة للعودة القوية الى ليبيا تأكيداً لإصرارها على إعادة نسج علاقات مع الدول التي كانت تتمتع بعلاقات عميقة مع سلفها السوفياتي و»ليبيا القذافي» واحدة من هؤلاء، علماً أن موسكو تتهم أوروبا والولايات المتحدة باستغفالها عبر قصف ليبيا في 2011 وتأمين انتصار التنظيمات الشعبية ما أدخل ليبيا في فوضى وانقسامات مدمّرة.
بذلك يواصل الروس نشر نفوذهم بخلفية العودة الى الشرق الأوسط انطلاقاً من دورهم المركزي في زعزعة النفوذ الأميركي فيه، من الميدان السوري والليبي والفنزويلي وجهات أخرى متنوّعة.
كما أن حضور الصين له دلالات عميقة تؤكد الاعتراف الأوروبي – الألماني بقطبيتها الاقتصادية المتدحرجة نحو قطبية متكاملة بالشراكة مع روسيا وإيران في ضوء تخفيف التوتر مع الأميركيين بعقود تنظم المنافسات.
لذلك كان لا بدّ من حضور «المسيطر الأكبر على الميادين» وهم الأميركيون المدعومون في مؤتمر برلين بحضورهم الخاص ووجود حليفتهم الإمارات التي تمثل الخليج وجامعة الدول العربية المستسلمة لهم والاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة.
هناك إذاً غلبة للصوت الأميركي في مؤتمر برلين، لكن مجرد دعوة الثنائي الروسي والصيني هو إقرارٌ صريح ببدء التراجع الأميركي عن نظام الأحادية القطبية، فعندما يتطلب حل المسألة الليبية، وجود رباعية دولية من أوزان الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين والأميركيين الى جانب نفر كبير من دول المنطقة، فهذا يعكس تفتتاً في الأحادية القطبية وهذا يعني ضرورة إعادة تقاسم النفوذ في مناطق الغاز والنفط والاستهلاك.
واذا كانت دعوة الكونغو الى هذا المؤتمر لمجرد تمثيل سطحي لأفريقيا السوداء في اطار المكر الاوروبي التاريخي، فإن دعوة كل من تركيا ومصر لها علاقة بإصرار اوروبي على احتواء ازمة ليبيا للوصول الى تفاهمات اكبر على مستوى الشرق الأوسط.
ضمن هذه القراءة تمّت دعوة مصر جارة ليبيا جغرافياً والتي يرتبط نظامها السياسي بعلاقات قوية مع المشير خليفة حفتر التي أدركت حدود الدعم السياسي والعسكري مع مئات المدربين المصريين بالإضافة الى مئات المتخصّصين المصريين في الرمي المدفعي والتصدّي للغارات الجوية والبحرية في آن معاً.
وتعتبر مصر أنها أولى بالتحرك في ليبيا التي تجمعها معها العلاقات الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والقومية، هذا الى جانب رفضها لتحويل ليبيا دولة للاخوان المسلمين بواسطة الرئيس الحالي فائز السراج والدعم التركي المتسربل بعباءة الاخوان المسلمين.
أما تركيا فتستشعر بوجود نية دولية لإعادة تقسيم الشرق الأوسط حسب المصالح، وتعتبر انها اولى بذلك لجوارها الجغرافي لهذه المنطقة وتحكمها بفدرالية للاخوان المسلمين حاضرة بقوة في معظم العالمين العربي والإسلامي. فتحاول الاستفادة من هذه المزايا لتحصيل حصص وازنة تعوّض لها عدم وجود موارد طاقة في أراضيها، لذلك فالعين التركية – العثمانية تحدق اليوم بالنفط في شرقي سورية وشمالي العراق وغاز قبرص والبحر المتوسط وثروات ليبيا الخيالية من كامل موارد الطاقة، كما تريد نشر جيوبوليتيك من النفوذ السياسي في مصر عبر الاخوان المسلمين فيها وكذلك في جنوبي اليمن وتونس وليبيا ومعظم المنطقة الإسلامية بما يفتح لها الطريق لزعزعة العالم الإسلامي على الطريقة العثمانية بشكل يلبي طموحات الرئيس التركي رجب أردوغان ويقلص من خيباته المتكررة.
بذلك تتضح أهداف مؤتمر برلين التي لن تستبعد أبداً ايجاد حلول مؤقتة لتأمين وقف لاطلاق النار ويُجمدُ الخلافات الليبية الداخلية، مع الإبقاء على المركزين الكبيرين المتصارعين وهما دولة حفتر المنتشرة من الحدود المصرية حتى مشارف طرابلس الغرب، حيث تقوم الدولة المنافسة لصاحبها فايز السراج المدعوم من الاخوان المسلمين وتركيا.
لا بد هنا من لفت النظر الى ان ليبيا أصبحت رمز الصراع على امكانات البحر المتوسط من الغاز عبر المحور التركي، والمحور القبرصي اليوناني مع انغماسات مصرية وإسرائيلية وانتصار اوروبي للمحور القبرصي اليوناني ومحاولة روسية لتأمين علاقات مع كل المراكز المتصارعة.
لذلك يبدو أن ليبيا مدفوعة الى مشهد سوري حربي جديد من طريق تدخّلات دولية، تشتهي إمكاناتها، لكنها تريد العبور الى كامل الشرق الأوسط.
فهل ينجح مؤتمر برلين بتحقيق هدنة دائمة في ليبيا تفتح الطريق نحو مفاوضات سياسية، وهل يتمكّن من تنسيق تعاون بين قطبية رباعية من اوروبا والصين وروسيا والولايات المتحدة؟
إن التراجع الأميركي في الشرق الأوسط هو من العوامل الدافعة الى التنسيق على أساس إبعاد الأطراف التركية والمصرية عن وليمة شرق اوسطية لن يتمكّن الأميركيون من الاستئثار بها بمفردهم بعد اليوم، وهذا يؤكد أن المنطقة مدفوعة الى نفوذ رباعي لن تستطيع زعزعته إلا إيران وحلفاؤها في حال نجاحهم بفرض سحب القوات الأميركية من الشرق الاوسط.
د. وفيق ابراهيم ـ البناء