مقالات مختارة
تعيش منطقة شمال افريقيا على صفيح ساخن، بفعل الأزمة الليبية ودخول مستجد خطير عليها، من خلال إعلان تركيا أنها تستعدّ لتقديم دعم عسكري مباشر لحكومة الوفاق الليبية في حربها ضد قوات الجيش الوطني التي يقودها خليفة حفتر، وذلك تلبية لدعوة رسمية من حكومة فايز السراج.
تكمن الخطورة هنا، بتعدد الأطراف الإقليمية والدولية الداخلة في الأزمة الليبية، والتي تعكس لعبة الأمم في تقاسم النفوذ بين غرب اسيا وشمال افريقيا، بعد أن كانت هذه اللعبة ترسم خيوطها في سوريا، لتنعكس سيناريوهاتها في ليبيا. ويلقي هذا التحدي بظلاله على جيران طرابلس الغرب وخاصة مصر وتونس والجزائر، في ظل مساع حثيثة من قبل أردوغان للتوسع إلى هذه المنطقة وإعادة الأمجاد العثمانية إليها، واللعب خارج المجال الجغرافي.
لقد اعتبر أحمد داود أوغلو في كتابه "العمق الاستراتيجي - موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية" أنّ مكانة تركيا دولياً مرتبطةٌ بشكلٍ مباشرٍ بمكانتها في محيطها وأدوارها الإقليميّة التّي تلعبها. وقد رأى أنّه كلما لعبت بلاده أدواراً أكثر فاعليةً في الشّرق، كلّما ارتفعت مكانتها في الساحة الغربيّة – الدّوليّة. ويرى أوغلو أنّه يتوجّب على تركيا أن تعيد الّنظر في سياستها تجاه الشّرق الأوسط. "فقد فقدت تركيا الأحزمة الاستراتيجيّة الأكثر قوةً في منطقة الشّرق الأوسط في الرّبع الأول من القرن العشرين، وعاشت بعيدةً بشكل عام في ربعيه الثاني والثالث، وطورت سلسلة علاقات متأرجحة بين صعود وهبوط، مع دول المنطقة خلال الربع الأخير من القرن نفسه، وهي اليوم مضطرةٌ لأن تعيد تقييم علاقاتها مع المنطقة من جديد بشكل جذريّ".
ماذا تريد تركيا؟
أمام هذا الواقع تحاول تركيا أن تثبت نفسها دائماً أنها شريك استراتيجي لا يمكن الاستغناء عنه في رسم مستقبل منطقة الشرق الأوسط السياسي، مستفيدة من موقعها الجيوسياسي، إذ يحدها من الشمال البحر الأسود وجورجيا ومن الشرق أرمينيا وإيران ومن الجنوب العراق وسوريا والبحر المتوسط مع حدود بحرية مع قبرص ومن الغرب بحر إيجة واليونان وبلغاريا، وبعد أن كانت تعمل بالقرب من مجالها الجغرافي في سوريا والعراق، بدأت اليوم تسعى إلى لعب دور فاعل خارج مجالها وحدودها البرية، عبر تثبيت نفوذها في البحر المتوسط، من خلال استخدامه للوصول إلى شمال افريقيا. وهي وإن كانت لا تنطلق في تحركاتها الخارجية فقط من مصالح اقتصادية سياسية، بل من منطلقات أيديولوجية، من خلال دعم "الإخوان المسلمين"، فإننا لا نغفل ايضاً عن أن اردوغان يسعى إلى استعادة الأمجاد القديمة، حيث كانت ليبيا ولاية من ولايات السلطنة العثمانية منذ عام 1551 م، فضلاً عن أن لأنقرة طموحاً إقليمياً للتوسع في أفريقيا، كان واضحًا في السودان أيام حكم عمر البشير.
وتسعى تركيا على ما يبدو، لمنع تكرار السيناريو المصري، الذي اسقط حكم محمد مرسي، وأوصل السيسي إلى الحكم، وتأتي هذه المساعي في ظل احتدام التنافس السياسي والعسكري الإقليمي والدولي، وفي ظل المساعي الروسية لإنهاء النزاع الحاصل ولعب دور متقدم في هذه المنطقة بعد الخطأ التاريخي الذي تمثل بموافقة الروس على قبول التدخل الغربي في ليبيا، وفي ظل التراجع الأميركي في ملفات عدة في منطقة الشرق الأوسط.
ويعد هذا التدخل، رسالة من أردوغان إلى واشنطن والاتحاد الأوروبي، لإثبات إرادته في أن يكون شريكاً بالغاز في المتوسط، خاصةً أنها تعارض بقوة، خط "إيست ميد" الغازي، بين قبرص واليونان وإسرائيل، فيما تدعمه عدة دول أوروبية بالإضافة إلى واشنطن، وهذا ما جعل أردوغان يرد على الاتفاق من خلال توقيع اتفاق بحري بينه وبين السراج لتحديد الحدود البحرية، وهذا ما اثار حفيظة تلك الدول خاصة ان هناك نزاعات منذ عقود بين تركيا واليونان على جزر في بحر إيجه، ونزاعات مع جمهورية قبرص بشأن المياه الإقليمية للجزيرة منذ عام 1974.
إلى ماذا سيؤدي هذا التدخل؟
سيعيد التدخل التركي في ليبيا خلط الأوراق في مجمل المنطقة، خاصةً في الجوار الليبي، وهو ما قد يؤدي إلى تصاعد حدة النزاع، وتنامي التطرف في ليبيا، واحتدام القتال بين المحاور الإقليمية في المنطقة والذي بات ينذر بخطورة كبيرة على الدول العربية، فهو سيزيد الصراع مع مصر التي هي على خلاف مع أنقرة منذ عزل الرئيس محمد مرسي، فضلاً عن الإمارات والسعودية اللتين تدعمان خليفة حفتر.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا التدخل سيؤدي إلى وضع تركيا على مسار تصادم مع اليونان وقبرص، ويزيد من التوتر بينها وبين الاتحاد الأوروبي ويُضاف إلى النزاعات الحالية المتعلقة بسياسة الهجرة ودور أنقرة في حلف شمال الأطلسي، فضلاً عن أنه سيؤدي إلى وضع تركيا في مواجهة مع روسيا في ليبيا أو على أقل تقدير وضعها في سياسة متناقضة مع روسيا ما يرفع من درجة تأزيم الأوضاع في المنطقة.
إذاً، يبدو أن اردوغان الذي سيقدم على هذه المغامرة الجديدة، بعد مغامرته في سوريا، سيحمّل المنطقة الكثير من التبعات السياسية، ولربما سيتحمل التبعات الأكبر في حياته السياسية.
علي إبراهيم مطر ـ العهد